وكانت قوانين هذه المدينة شديدة على المتشردين، فلما رأى الجنود جاسبار مرتمياً على الأرض قادوه إلى قسم البوليس، ولكن كان عبثاً ما حاول المحققون من الحصول على إجابة منه
وخطر ببال واحد منهم أن أمامه دواة وقلماً وورقة، فلما رأى جاسبار هذه الأشياء تناول القلم وكتب اسمه فاستدل المحققون بذلك على أنه يدعي الخرس والصمم، وعلى أنه متشرد فأرسلوه إلى السجن
وكان من بين الذين حضروا التحقيق معه طبيب اسمه الدكتور (دومر) وقد استرعت هذه الحالة اهتمامه فصار يعوده في السجن ويترقب تصرفاته
ولما جيء إليه في السجن بقطعة من اللحم وبقدح من الجعة ارتاع ورمى بالقدح، وجيء له بقطعة من الخبز وبقدح من الماء فتهلل وجهه وتغدى منشرحاً ثم نام
وفي خلال الأيام الأولى زار السجن عدد كبير من الناس ليروا هذا المجهول. وكان بعضهم يحمل إليه الكعك، والبعض يحمل إليه اللعب
وكان الفريق الآخر حكيما لأن المعاملة المعقولة مع مثل هذا المخلوق هي معاملة الأطفال. لكن جاسبار كان يرفض كل ما كان يقدم إليه إلا جواداً خشبياً حين رآه تهلل وأبدى رغبة دالة على نفاذ الصبر في الحصول عليه. فأدرك النظارة من ذلك أنه كان يملك مرة مثل هذا الجواد الخشبي، وانه كان في يأس من استرجاعه
وعلى التدريج استطاع جاسبار رؤية النور وسماع الأصوات، وكان من قبل يبكي عندما يسمع دقات الساعة من الكنيسة المجاورة وينزعج عندما تمر بالقرب من السجن فرقة موسيقية. وقد أغمي عليه في أول مرة سمع فيها الألحان
وكان الدكتور (دومر) يراقب في اهتمام شديد كل هذه التطورات، فلما اقتنع بإمكان تعليمه طلب إلى ولاة الأمور تسليمه إليه. وبدأ يعلمه ووجد تقدمه مستمرا. وبعد مدة كتب جاسبار تاريخ نفسه في العجالة الآتية:
(كنت لا أعرف كم عمري لأني لم أكن اشعر بوجود الأيام والليالي ولا بمدلول العمر، ولكني كنت أشعر بوجودي في الغرفة المظلمة التي لم أعرف غيرها. وكان رجل يزورني كل يوم ويأتي بالطعام، وكنت اشعر بأني غير وحيد في هذه الدنيا. وقد وضع الرجل أمامي