للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

جهد في التفكير والتدبير: فالعالم إنما يطلب الحقيقة كما هي، سواء أكان ذلك بأخذها كما قررها مقرروها، أو باستظهارها، أو باستكشافها، أو نحو ذلك من وسائل إصابتها والتهدي إليها. أما الخيال فانه يعمد إلى الحقائق الواقعة فيتناولها بالتأليف والتلفيق، ويأخذها بالتشكيل والتلوين، حتى تستوي له منها صورة توائم في قوتها وروعتها وتناسقها حظ مسويها من قوة التخييل، وجودة الصنعة، ودقة الذوق، والعكس في العكس.

فقد بان لك أن الصورة المتخيلة مهما غلا فيها صاحبها واطرف، ومهماابعد بها عما طالعة الفكر، فإنها مشكلة من حقيقة واقعة، أو ملفقة من حقائق واقعة. ولست أصيب مثلاً لتوضيح هذا الكلام احسن مما أجراه أصحاب المنطق من التمثيل للممكن العقلي (المستحيل الوقوعي) بقيام جبل من الذهب، وتموج بحر من الزئبق. فذلك وان كان غير واقع بالفعل، إلا أنه مما يمكن إيقاعه في الذهن بالتلفيق والتشكيل: فالجبل موجود والذهب موجود. والبحر كائن والزئبق كائن. وكل سعى الخيال في تجلية مثل هذه الصورة هو استعارة هذا المعدن لذلك الجرم، فيكون جبل الذهب، ويكون بحر الزئبق.

كذلك تستطيع أن تفرق بين الشاعر والعالم، بأن الشاعر في الجملة، مُعطٍّ، أما العالم، في الجملة، فاخذ: الشاعر يبتكر ويستحدث بقلب الحقائق، والتلفيقبينهما، وإفراغها في غير صورها، وتلوينها بغير ألوانها. أما العالم فابلغ جهده في تلقي الحقائق. فإذا كان فيها استحداث أو ابتكار فبمجرد الانتفاع بما انكشف له فيها من الآثار، وما جلى عليه من مكنون الأسرار.

ولقد علمت أن الشاعر إنما يتكئ في فنه اكثر ما يتكئ على الخيال، حتى لقد ذهب اكثر النقدة إلى انه ليس شعراً ذلك الكلام الذي يجري في الحقائق المجردة، وان كان مقفى موزوناً. ولقد عرفت اثر الخيال في تلفيق الحقائق وتزييفها، وطبعها على غير صورها الواقعة. لهذا نفى الله تعالى أن يكون كتابة الحكيم شعراً، ونفى أن يكون رسوله الكريم شاعراً: (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ). (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ، إن هُوَ إلا ذِكرٌ وَقُرْءانٌ مُبينٌ) يرد جل مجده بهذا وبغيره دعوى الكفار من أن القران شعر، على معنى انه من تلفيق الخيال وتزييفه، كما رد دعواهم بأنه سحر، والسحر ما يواري حقائق الأشياء، ويجلوها على صور تتمثل للأوهام بخداع الأسماع والأبصار: (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ).

<<  <  ج:
ص:  >  >>