(يخَيَّلُ إليْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعَى). إنما الكتاب كله حق وصدق ومنطق صحيح (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزيلٌ مِنْ حَكيمٍ حَميدٍ). (إِنْ هُوَ إلا ذِكْرٌ وَقُرْءانٌ مُبينٌ). وهذا هو الأليق بحجة الرسالة، وآيات الله المُعلِمة على طريق الهدى وعلى طريق الضلالة.
ومن البديه أن الشعراء لا يطلقون أخيلتهم في فنون المعاني لمجرد العبث بقلب الأوضاع، ومسخ الأشكال، والتلفيق بين الحقائق. إنما الغاية أن تجلو عليك هذه الأخيلة صوراً طريفة بديعة لهذا الذي أدركته من الواقع، أو تترجم لك عما يدق عن فهمك من معانيه ومغازيه، او تكمل لك وتبسط بين يديك ما ترى أن الطبيعة قد قصرت فيه وانقبضت دون حبكه وتسويته، ونحو هذا مما يرهف الحس، ويمتع النفس بمطالعة صورة من صور الجمال الفني في أي وضع من أوضاعه، وعلى أي شكل من أشكاله.
ولا شك في أن أبدع هذه الصور وأروعها، وأذكاها للحس، وأجملها موقعاً من النفس، هي أدقها حبكاً، واحكمها سبكاً، حتى إذا طالعتها التبست عليك بالحقيقة، أو إنها لتكاد. وهنا تتفاوت منازل الشعر بتفاوت الشعراء في قوة التخيل، ورهافة الحس، ودقة الصياغة، وبراعة الأداء.
وفي هذا المقام يجمل أن نوضح معنى لعله يحتاج عند الكثير إلى التوضيح. قال المتقدمون: إن أعذب الشعر أكذبه. وهذا كلام صحيح إذا اتجه على أن أعذب الشعر ما كان من نسج الأخيلة لا ما وقع على مجرد تقرير الحقائق الثابتة. ولكننا إذا تحولنا بالنظر إلى ناحية أخرى من نواحي هذا الموضوع لرأينا كذلك أن أعذب الشعر اصدقه: ولسنا نعني بالصدق هنا المطابقة للواقع، على تعريف أصحاب المنطق، وإنما نريد به الصدق في الترجمة عن شعور الشاعر. فأعذب الشعر في الواقع هو الذي ينفض عليك ما يعتلج في نفس الشاعر، وما يتمثل لحسه في إدراكه للأشياء.
ولا يذهب عنك أننا نحن سواد الناس تعرض لنا الأشياء فندركها، في الغالب، كما هي ماثلة لأعياننا أو لأذهاننا. وهذا الإدراك لا يتعدى ظاهر الصور، أما الشاعر، أعنى به من يستحق هذا الاسم، فله نظرة نافذة في مطاوي كثير من الأشياء، تسلكها دقة حسه، وهنا يتقدم خياله السري فيسوي منها صورة جميلة بارعة. فإذا واتته قدرة النظم، فاداها كما