أدركها، وجلاها كما تمثلت له، خرجت على حظ من الإحسان والإجمال يوائم حظه من قوة الخيال، ودقة الذوق، وحسن الأداء.
والشعر الذي تتوافر له هذه الخلال هو الشعر الذي يروعك، ويصقل حسك، وقد يغمز كبدك، لان الشاعر قد رفعك به إلى نفسه، فأشهدك ما لم تكن تشهد، وكشف لك من دقائق الأشياء عما لم تكن ترى، وبعث عاطفتك فحلقت في عالم الروح كل محلق، وترقرقت في سرحات الجمال كل مترقرق.
وأعود فأقول لك: إن الصورة الشعرية، في هذه الحالة، وان كانت خيالاً في خيال، إلا أنها لقوة موقعها، ودقة صنعها تشبه عندك الصور الواقعة؛ بل لقد تلتبس عليك بالحقائق الثابتة. وكيف لا يكون لها في نفسك هذا الأثر، وهي نفسها قد تمثلت لأدراك الشاعر واضحة سوية، في غير تعسر ولا تعمل، فنفضها في الشعر عليك كما تراءت لذهنه، وتمثلت لحسه.
أرجو أن يكون قد صح عندك الآن إن أعذب الشعر، من هذه الناحية، اصدقه لا أكذبه.
الصناعة الشعرية
ولست أعني بالصناعة هنا إلا صناعة الخيال. فانه إذا كانت الصناعات البديعية، لفظية وغير لفظية، قد ساءت إلى الشعر العربي إساءة بالغة، فان الصنعة الخيالية لقد كانت في الإساءة اشد وابلغ. وتلك أن الشاعر أو من يتصدى لقرض الشعر، على العموم، لا يشعر شيئاً ولا ينفذ حسه إلى شيء. فيبعث خيالة من مجثمه، ويستكرهه استكراها على أن يصنع له صورة شعرية، فيمشى متعثراً هاهنا وهاهنا في الارتصاد لما عسى أن يسنح له من المعاني واقعة حيث وقعت. حتى إذا لاح له شبحها شكها ولو لم يتبين شخصها. ثم جعل يعالجها بالترويض والتذليل، ويضيف إليها ما ظنه من جنسها، أو ما حسبه مما يلابسها. ويطبع من هذه الامشاج صورة شعرية (والسلام)، صورة لا الشاعر أحسها من أول الأمر أو تذوقها، ولا من يقرؤه شعر بالألف لها، أو ذكا حسه بها.
وهذا الخيال المصنوع المتعمل المجهود به ليس من الشعر في كثير، وهذا على ارفق تعبير. بل انه لأشبه بصنعة النجار أو الحداد في بسائط المصنوعات. بل انه كثيراً ما تخرج الصورة الشعرية ملتوية شائهة، تخفي معارف وجهها على ناظمها فكيف بقارئيه؟