للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

متى يكون اللقاء؛ ووجدت حاجتها إلى الدمع فأسرعت إلى خلوتها!

وأغْفَتْ راجيةُ لحظاتٍ واستيقظت ذكرياتُها وأمانيها، فتعاقبتْ عليها الرُّؤى والأحلام، ثم أصبحتْ. . . ونسيتْ ما كان من حديث الأمس ومن خبره؛ فلم تعد تذكر شيئاً إلا أنها مفارقةٌ المدينة بعد قليل لأمرٍ لا تكاد تعرف له وجهاً ولا علة، وأنها لن تذهب إلى السيما بعد اليوم، ولن تلقي أصدقاءها وصديقاتها، ولن تستمع بما كانت تستمع من اللهو حين كانت تخرج كل يوم إلى رياضتها بين حدائق الجيزة والجزيرة ومصر الجديدة، وحضرتْها صورٌ عدة، وانثالتْ عليها ذكريات. . . وذكرتْ. . . إن ثيابها الجديدة ما تزال عند الخيّاط لم تفرغ منها بعد، وقد كانت حقيقةً بأن تفرغ منها منذ أيام، لولا أن راجية كانت تؤثر الروّية في تفصيل ثيابها ريثما ترى أحدث الأزياء فنقيس عليها. ماذا تفعل اليوم؟ أفّ للحرب! لولاها لكانت اليوم - على عادتها في كل سنة - جالسةً تحت الشمسية الظليلة على شاطئ سيدس بشر؛ أو رائحة غادية في معرض زينتها بين كيلوباترا وخليج ستالي؛ ولكن الإسكندرية اليوم منطقةُ حرام، فمن ذا يخاطر بعمره بين الموت الأحمر من أجل ساعة عل شاطئ العريان؟ ومن ذي تحاول أن نشتري بعمرها كلمةَ إعجاب من شاب طائش تستهوية بزِبِّها وزينتها؟

. . . ثم ذكرت القرية. . . ياه! منذ كم لم نذهب راجية إلى القرية؟ القرية التي نَمَتهْا ونَمَتْ أباها وما تزال تغذوهما بخيرها وبِرِّها الدائم على عُنف ما تلقي من العقوق ونكران الجميل!

لقد فارقتْ راجية القرية منذ سنوات بعيدة، لعلها لا تذكرها، أو لعلها تذكرها وتنكرها لئلا يكون ذلك نميمةً على عمرها الذي تحرص على كتمانه. . . ولم تذهب راجيةُ بعد ذلك إلى القرية التي فارقتها طفلة، إلا مرة، مرة واحدة صحبتْ أباها في موسم الحصاد؛ وكانت يومئذً فتاةً في أول صَحْوة الشباب، فما كادت تهبط القرية حتى لمت متاعها للرحيل، ثم لم تعد؛ فكيف يريدونها اليوم أن تهيئ نفسها لإقامة طويلة هناك، لا تدري متى تنتهي وكيف تنتهي؟

وضاق صدر الفتاة، وخيل إليها أن يداً تشد على رقبتها فتمنعها أن تتنفس؛ وكانت أمها في حجرتها تعد حقائب السفر!

<<  <  ج:
ص:  >  >>