وأخذت الفتاة زينتها وخرجت لأمر من أمرها، ولم تنس أنة تنظر في صندوق البريد قبل أن تجتاز الباب! وكانت الظهيرة حامية، والشمس تفرش الشوارع من أشعتها الحمراء، وقد خلتْ مركبات التزام إلا من الموظفين العائدين إلى بيوتهم يتأبطون صحفاً وأضابير من أوراق الحكومة، أو يحملون إلى أهليهم من الفاكهة والحلوى، أو من الفجل والجرجير. . .!
واتخذت الفتاة مقعدها في الترام، وثمة عينان تلحظانها من مقعد قريب، وكانت في غفلة بنفسها وما يصطرع في قلبها من ألم. . . هاتان عينان تعرفهما وتعرفانها
ولما همت الفتاة أن تهبط من الترام عند بيت الخياطة، نظرت، فعرفتْ، فقنعت رأسها وتضرجت وجنتاها حياء؛ ثم مضت في طريقها لا تكاد تحملها رجلاها. . .
وأَجَدَّت لها عيناه ذكرى وألماً، وأطاف بها همٌّ جديد. . .
وحاولت الفتاة أن تمحو صورته من خيالها فما أطاقت؛ وكأنما تراءى لها في تلك اللحظة على غير ميعاد ليكون آخرَ ما يصحبها إلى القرية من صور المدينة!
. . . لم يكن (عابد) فتاها الذي تؤمل، ولكنها كانت فتاته؛ لقد كانت تعلم من أمره ما يحسبه هو سراً من سره، فإن له عينين لا تستطيعان الكتمان، تعبِّران عن معنىً لا يبوح به لسانه ولا طاقة له به؛ على أنه لم يستطيع بكل ما طاق من قوة الحب أن يشغلها بأمره، ولا هو حاوله؛ ولكنها كانت تعرفه، وتحس وقع نظراته؛ وكان ذلك حسْبها وحسبه؛ فإنها لُكبرِ نفسها وهي منَ هي وحيث هي - أن ينتهي أملها عنده، وإنها لترى كل يوم من ترى وتسمع ما تسمع، فإن لها في كل يوم أملأ تأمله بالنهار وتحلم به في الليل. . . كان ذلك وهي في المدينة المتراحبة التي لا يغيب نهارها حين تغيب الشمس. . . أين هي غداً من أمانيها؟ وا أسفا! لكأنما ارتكبت إثماً جوزيت عليه بالسجن إلى أجل غير مسمى!
لم تكن راجية تعرف من الفرق بين القرية والمدينة إلا هذه الأضواء الساطعة، وتلك الملاهي الساهرة؛ ثم صديقاتها اللائى تراهن كل يوم ويرينها، ليس لهن من حديث إلا عن الأزياء والسهرات وأخبار الفتيان والفتيات؛ وأنشأت لها هذه الحياةُ التي كانت تحيا أمانيَّ وأحلاماً تراوحها وتفاديها في يقظتها وفي منامها؛ وحين جاءتها (الخاطبة) بأول خاطب يطلب يدها أيقنت أنها من الغاية التي تهدف إليها على مقربة، فراحت تبالغ في الطلب وتشتط في الشرط؛ وحرصت من يومئذ على أن تعرف مالا يعرف إلا القليل عن طبقات