الموظفين ودرجات الوظائف وسلالم الترقية لكل طبقة؛ ثم مضتْ تسترسل في أمانيها وحلقت في أفق بعيد؛ وراحت نُتبع عينيها كل منظر، وتُرعِى أذنيها كل نبأ، فاجتمع لها من المعارف بشئون الطبقة العليا من أهل المدينة ما خيَّل إليها أنها أو شكت أن تبلغ. . .
. . . وعلى حين غفلة صلصل الجرس يدعوها إلى الرحيل. . .!
وعادت الأسرة إلى القرية التي هجرتها منذ بضع عشرة سنة تلتمس حياة جديدة بين أنوار المدينة؛ لقد هجروا القرية يوم هجروها أربعةَ نفر، وعادوا إليها ثلاثة، وخلفوا رابعهم هناك مرابطاً ينتظر الآونة التي يدعوه فيها الوطن ليبذل شبابه!
واستيقظن راجية على صياح الديكة من وراء جدار؛ فنهضت من فراشها وفتحت النافذة تستروح روْح النشاط والقوة. . . ومرَّ الراعي بنافذتها يسوق ماشية. . . فما إن رآها حتى طأطأ رأسه وأوفض في السير، ونظرت في أعقابه، ثم ارتدّت عن النافذة. . .
يا لله! وفي القرية كثير من مثل هذا المسكين؟ عظم معروق في ثوب خلق يوشك أن يحطمه عصفُ الريح، يقد ماشية تكاد تنشق شبعاً وَرِيّاً؛ إنه يؤثر مماشيته على نفسه لتعيش فيعيش بها!
ثم تتابعت أفواج الفلاحين سارحين إلى حقولهم يتبعهم ولدانهم، قد أُوقرتْ ظهورهم بما يحملون، ومضى النساء إلى عملهن. . .
ووجدت راجية ما يشغلها، فنسيت شيئاً بشيء. ومر يومها الأول وهي ترى وتوازن وتحكم؛ ولما جلست في المساء على حافة القناة بين رفيقات من بنات يسامرنها ويتحفَّينَ بها، أحستْ في نفسها عاطفة جديدة تنمو شيئاً فشيئاً، ورأت في حديث هؤلاء القرويات روحاً ومعنى غير ما كانت تجد من حديث صواحبها في المدينة. . .
وأشرق القمر عليها وذاب غي ماء القناة شعاعُه، ونظرت إلى صواحبها ونظرن إليها فكأنما سكب القمر على قلبها من شعاعه الطهور فغسله مما فيه؛ وأحست فيضاً من الحنان والحب يغمرها فيدنيها إلى رفيقاتها قلباً إلى قلب وروحاً إلى روح؛ وذكرت كلمة أبيها:
(نعم يا بنيتي. . . ولكن واجبك هناك. . . إن اخوتك وأخواتك في القرية أحوج إلى التمريض والإسعاف من جرحى الحرب!)
بلى، وإنها لتشعر الساعة بثقل هذا الواجب على عاتقها أكثرَ ما شعرت في حياتها منذ