للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

حتى ضل القوم، فظلوا يتخبطون في كل مكان، ويهيمون في كل واد، يبحثون عن محمد، ومحمد منهم بحيث لو نظر أحدهم تحت قدميه، لعثر عليه

تذكرت يوم تألب شبان قريش على محمد، وأحاطوا بداره إحاطة السوار بالمعصم، ينتظرون طلوع الصباح، فيعطرون أديم الأرض بأطيب دم جرى في اطهر عروق، ويفصلون أعظم رأس عن اكرم جسد، وكيف أن محمدا تغفلهم في الهزيع الأخير من الليل فأضجع عليا في فراشه، وسجاه ببرده الحضرمي، ليوهم القوم أنه هو ثم انسل من بينهم، والكرى آخذ بمعاقد أجفانهم. كم كان ليلا هادئا ساكنا، لم يقطع عليه سكونه إلا دبيب محمد الخافت، يسير على أطراف أصابعه، وإلا طرقة هامسة من أطراف أنامله على باب صديقه أبي بكر سرعان ما استجاب لها، كأنما كانا على ميعاد، على أنهما لم يأمنا أن يخرجا من باب الدار، فخرجا من فجوة في الجدار، ثم اتجها في طريق اليمن حتى طرقا علينا باب الغار، وقد آذن أن ينبلج النهار، فقابلناهما بالنجلة والإكرام، طيلة ثلاثة الأيام. كم كان يثير إشفاقي وإعجابي ما كان يبدو عليهما من الخوف المركب في طبيعة الإنسان، مقرونا بالثبات الذي تبعثه قوة الإيمان!

نعم تذكرت ذلك كله، وتذكرت كيف كان عبد الله بن أبي بكر يندس بين قريش نهارا، ثم يوافيهما في الغار ليلا، فيسر إليهما ما يأتمرون به، وكيف كان عامر بن فهيرة غلام أبي بكر، يمر بغنم عليهما موهنا فيحتلبان ويذبحان، ثم يعفى بها على آثار عبد الله. وتذكرت يوم اعتزما الرحيل فالتمسا ما يعلقان به الطعام فشقت أسماء بنت أبي بكر - ذات النطاقين - نطاقها شطرين، علقت الطعام بشطر، وانتطقت بشطر. وتذكرت سراقة بن مالك وما كان من أمره يوم جعلت قريش لكل من يقبض على محمد مائة بعير، فخرج يلتمس محمدا، فإذا محمد من عن كثب. لكنه ما كاد يصيح صيحة الظفر، حتى شعر بجواده قد عثر، فأنهضه فكبا ثانية، ثم ثالثة، حتى كأن الحصان فقد قوائمه، أو فقد الأرض التي تستقر عليها قوائمه؛ وإذ ذاك رأى الفارس أن الأرض اثبت ظهرا من حصانه، فترجل ودنا من محمد، لكن لا ليقبض عليه، بل ليعتذر إليه. ألم أخبرك يومئذ أن الرجل يكتنفه غموض وتحوطه أسرار؟

قالت الثانية: دعيني مما تقولين، أي سر في جواد يكبو بصاحبه، أو في حمامة تبيض، أو

<<  <  ج:
ص:  >  >>