عنكبوت تنسج خيوطها، أو شجرة ترسل أغصانها؟ إنما السر كل السر في تعاليم هذا الرجل التي تنفذ إلى قلوب أصحابه، فتفعل فيها ما لا تفعل خمر الأندرين ولا سحر بابل. لقد هاجر الرجل وهو وحيد طريد، فمن أين جاء بهذا العدد العديد، الغارق في يلب الحديد؟، أتذكرين ما كنت تتنبئين به يومئذ من أن أهل المدينة لن يكونوا أبر به من أهله الذين آذوه وطردوه، ولو تمكنوا منه لقتلوه، ولا من أهل الطائف الذين أغروا به الصغار، فحصبوه بالأحجار؟ أما كنت تقولين: ماذا عسى أن تكون إقامة محمد بين ظهراني أهل المدينة، والمدينة معقل اليهودية التي يناصبها العداء، ومهد الفتن التي لا تهدأ ثائرتها بين الأوس والخزرج، وبينهما ما بينهما من تراث ودماء، يتوارثها الأحفاد عن الأجداد؟
وقد ينبت المرعى على دمى الثرى ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا
لقد كنت تقولين ذلك، وحق ما تقولين، فليت شعري ماذا فعل محمد حتى استسل تلك السخائم المستأصلة من نفوس القبيلتين؟ وكيف هادن اليهود، وهم اشد تمسكا بتوراتهم، من أهل مكة بهبلهم ولاتهم؟ بماذا تفسير هذا؟ وما هو هذا الذي يأتي به يسميه قرآنا، فيصبه في الآذان كما تصب الخمر في الأفواه، ويتلوه عليهم كما تتلى الرقى والتعاويذ؟ إن لم يكن خمرا، ولم يكن سحرا، فأي شيء هو؟ لقد سافر محمد في قلة وذلة، لا ينفر منه وحش، ولا تشعر بوطأته أرض، فما باله يعود فتتدكدك الأرض تحت وقع سنابك خيله، وتلوذ الوحوش منه بقمم الجبال؟ كان هو وزميله ودليل عند هجرتهم يسيرون ليلا، ويختفون عن العيون نهارا كما يزور الحبيب الحبيب، عندما يخشى عين الرقيب
أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وانثني وبياض الصبح يغري بي
كانوا لا يأمنون نميمة الشمس، ولا إغراء القمر، ولا وشاية ظلالهم بهم، ولا يطمئنون إلى سلوك طريق معبدة ذلول، فهم أبداً يعوجون ويعرجون ويصدون وينحدرون، فما بالهم الآن يسيرون في وضح النهار، ويكادون يغطون قرص الشمس بما يثيرون من غبار، ويهتكون حجابها بكل صارم بتار؟
لشد ما تغيرت الحال! ولشد ما تدهشني تلك المغناطيسية التي تجذب إليه الرجال! ولعمري ما رأيت اتباعا أشد تعلفاً بصاحبهم من تعلق أصحاب محمد بمحمد. أو ما تذكرين يوم كانت قريش تطرح بلالا على الرمضاء إذا اشتد الهجير، وتلقي على صدره حجراً ينوء بحمله