يفترشون الأرض، وقد بدت سوآتهم من ثيابهم الممزقة، وهم يحلمون بالعيد، العيد الذي سيحمله إليهم نور الفجر الوليد بعد ساعات.
وعادت الذكريات بالصبي المشرد إلى مثل هذه الليلة في الوطن الجريح المستعبد الذليل؛ تلك الذكريات التي لا تميت جراحها في قلبه ولا تشفى، تلك الذكريات التي تنزف جراحتها الأحزان في عواطفه والتي عجزت دموعه عن غسلها من ذلك القلب الحزين سنوات ثلاثاً طويلة.
وفتح الباب الضيق وملأ رئتيه بالهواء العليل فأحس ببعض الراحة وعاد إلى مكانه فحملته الأفكار مرة أخرى إلى تلك الصورة البشعة في تلك الليلة الليلاء وقد رفد في مسقط رأسه بين أمه وأبيه وأخويه وأختيه، وبينما كانت الأحلام الجميلة تداعب هذه الأسرة السعيدة في ليلة العيد وإذا بعشرات من غلاظ الأكباد دفعهم القدر العابس، ممن تتلمذوا على حضارة الغرب ومبادئ حقوق الإنسان، يقتحمون المنزل ويمنعون بالأبرياء النائمين تقتيلا وتشويهاً حتى أخمدوا أنفاسهم وضرجوهم بدمائهم شأن الشجعان من غزاة القرن العشرين.
إنه لا يذكر كيف نجا، وإنه لعاتب على القدر لهذه النجاة، وكم ود أو أنه نام واستراح إلى جانب أبيه الشيخ في تلك الليلة، ولكن القدر الذي أتاح له الهرب من الموت، دفعه في طريق مفروشة بالأشواك والعذاب لا نهاية لها.
كل ما عرف من أمر نجاته أنه أفاق مذعورا وفر من باب خلفي فألفى المدينة بأسرها تذبح، والناس يتركون منازلهم في جنح الليل حفايا وعرايا، فاتجه مع المتجهين إلى السهل البعيد، فإلى الجبال ثم إلى حياة لا نهاية لها من عذاب الذل في هوان التشريد.
لقد ظل الإنسان هو ذلك الإنسان الذي عرفته الشمس في فجر الحياة البشرية، ولم تمح الحضارة من نفسه تلك القسوة العاتية التي ورثها من ضعفه يوم كان يهيم على وجهه في الغابات جائعاً عارياً يطارد الحيوانات وتطارده في الأحراج والكهوف والتي كثيراً ما كانت تتغلب عليه فتنكل به، والتي قلما تغلب إلا على الضعيف منها فقسا على ذلك الضعيف القسوة التي مازال يقسو بها على الضعفاء من بني جنسه حتى اليوم وحتى نهاية الحياة. والقسوة الموروثة في الإنسان البدائي أقل منها في الإنسان المتشح برداء مدنية القرن العشرين. لقد كان الغزاة القدامى يقتلون الأعداء ويضعون حد لآلامهم، أما الغزاة الذين