يستظلمون بحماية الأمم المتمدنة ورعايتها فقد مضوا شوطاً بعيداً في تلك القسوة حين هدتهم المدينة الغربية إلى قتل البعض وتشريد القسم الأعظم ليموتوا موتاً بطيئاً لا يذوقون فيه كل ما في العذاب من ألم ومرارة وجحيم. . .
وراح الصبي المسكين يقلب الأفكار في رأسه مستعرضاً ما عرف من مآسي التاريخ التي تشبه مأساة قومه في سير الزمن على أيدي السفاحين في قصة الإنسان فوق الأرض، فبدت له شريعة الظفر والناب مسيطرة على ما يسمونه (بالضمير الإنساني)، وأن الإنسان إذا كان قويا فلن يضيره أن يدوس ذلك الضمير في سبيل الوصول إلى غايته، ما دام يجد أن الذين يمدون بصرهم إليه بالإعجاب، وأكفهم بالتصفيق، وحناجرهم بالهتاف لا يقيمون وزناً لما ينصع، بل لما وصل إليه.
وكم حز في نفسه أن يسمع تلك الوحوش البشرية تتحدث عن الحرية وحقوق الإنسان، ودماء الأطفال والنساء والشيوخ من بني قومه لا تزال تقطر من مخالبها وأنيابها.
وكم حز في نفسه أن لا يتحرك الضمير الإنساني لدى الأمم المتمدنة التي جلس فيها ممثل تلك الوحوش، لمأساة بني قومه مثلما أبصره ويتحرك للمعاني البعيدة عن الإنسانية في كثير من المناسبات.
وتعالت شمس العيد، وسمع صراخ الأطفال وهم يتأرجحون فرحين بملابسهم القشيبة، وأبصر من النافذة الناس يروحون ويجيئون والسرور باد على وجوههم، وسمع المقرئ يرتل في المذياع قوله تعالى:(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) فأقفل النافذة مذعوراً وعاد إلى نفسه يذرف دمعة كبيرة على ضريح تلك الأمة التي كانت متمثلة في آي الذكر الحكيم، والتي كانت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، عزيزة لا تطلب إلا الشهادة في سبيل الله وإعلاء كلمة الإسلام. فانحنت أمامها الرقاب ودانت لها الدنيا وسجد لها التاريخ.
لشد ما يحاول هذا المسكين نزع الآلام من عواطفه، ولكنها عميقة الجذور لا يقوى على استئصالها! ولكم حاول أن يبدو كالبركان هادئ المظهر، وأن يضع على شفتيه ابتسامة مزيفة كعواطف البشر، ولكنه لم يقو على ذلك لأنه صبي لم تعلمه الحياة الخبث والمكر والخداع بعد.