لن يعرف معنى الوطن وحب الوطن غير أولئك الذين ذاقوا مرارة التشريد دون أن يكون لهم وطن. فأيقنوا أن الحياة رخيصة جداً إذا بذلها المرء في الدفاع عن ذلك الوطن والفوز بالراحة الكبرى فيه.
إنه في وطنه الأكبر، وطن العروبة، لا يحس بالغربة، يهون عليه دائماً وقع المصيبة وهول الكارثة أنه كان مع بني قومه الطليعة التي قضى عليها العدو المتربص فتنبه الجيش إلى الخطر ليأخذ الأهبة، واستعد لمناهضة العدو القادر. كانت هذه المعاني تبعث في نفسه طمأنينة السماء، أن الفرد إذا مات في سبيل المجموع كان شهيداً، قد أدى واجبه نحو أمته ووطنه، ولا عليه بعد ذلك، إن ظل كالجندي المجهول لا يعرف الناس عنه شيئا، وإن لاقى في سبيل أداء هذا الواجب مالا تقوى رواسخ الجبال على احتماله والصبر عليه.
سوف يموت جيل العبيد الحاضر الذي اختار الحياة في معركة الشرف والدفاع عن كرامة الدين والعرض والمجد، حين تحدته قطعان من كلاب البشرية، فأقبل إليه الموت يحمل في يديه عار الأبد، وقيود الذل، والمهانة والازدارء والحقارة بين الشعوب الكريمة. . .
وسوف تندفع الأجيال الحرة المقبلة من أبناء العرب، من وراء الغيب، وقد حملت في أرواحها بطولة المسلمين وأمجاد الفاتحين وعزة المؤمنين، تطلب الموت في سبيل الله لتنهار الدنيا فما فيها من قنابل ذرية تحت أقدامها، وما يذل إنسان يطلب الموت. . .
ومشت ساعات الزمن، وانطلق الناس إلى غاياتهم، ومرت أيام العيد الثلاثة، فما أحس بالمعاني الإنسانية التي تفرضها روح الإسلام على المسلم نحو أخيه المسلم، وما أحس بوجوده أقرب البيوت إليه وبينهم من يتزيأ بزي علماء المسلمين.
وكان من سوء حظه أن تحدق به قصور المترفين، ولو كانت تحتاطه بيوت الفقراء لغمروه بحنانهم ورغائبهم، لأنهم يمرون بالآلام التي يمر بها. ولتهب عليهم رياح البؤس والحرمان من صحراء الحياة كما تهب عليه.
ترى لماذا اختار الله رسله وأنبياءه من الطبقة التي صهرها العذاب؟ ولماذا قدر أن يذوق المصلحون والعباقرة والفنانون كؤوس البؤس منوعة من يد الحياة؟
إن الذين يولدون على الذهب، ويشبون بين القصور في أحضان الترف، ويجلسون في المقاعد الأمامية في مسرح الحياة، لا يعرفون عن الحياة شيئا.