تطور الحركة الفكرية في أواخر القرن التاسع عشر في عالم الغرب، واشتمل من المبادئ على ما كان ولا يزال محور الخلاف لمستحكم بين ذهنيته وذهنية الشرق العربي بوجه خاص. ولقد مضى على ظهور هذا الكتاب زهاء نصف قرن ولم يكن العالم العربي في ذلك العهد على اتصال وثيق بالحركة الفكرية الغربية، فلم يسمع في هذه البلاد بنيتشه وفلسفته إلا بمقالات موجزة، وكل ما عرف عنه هو أنه يدعو إلى التحرر من ربقة الأوهام واطرح الزهد واليأس والاتجاه إلى إيجاد الإنسان المتفوق.
ولعل المفكرين يسلمون معنا بأن خلوّ المكتبة العربية من هذا المؤلف الفريد الذي ترجم إلى جميع اللغات الحية فاتخذ أنموذجاً بين أبنائها للصراحة والإخلاص في طلب الحقيقة يعد نقصاً في هذه المكتبة ويسجل قصوراً علينا، لذلك اقتحمنا إعارة بياننا لكتاب زرادشت الذي قالت فيه الموسوعة الكبرى إنه لا يعد أروع ما كتب نيتشه فحسب، بل أروع ما كتب في اللغة الألمانية على الإطلاق.
ولابد في ختام تمهيدنا من لفت المفكرين إلى فصل من كتاب زرادشت عنوانه (بين غادتين في الصحراء) وفيه نشيد لخيال زارا (صفحة ٢٥٤) فإننا وقفنا عنده ملياً لأنه من نوع البيان المستغرق في الرمزية فلا يفهمه القارئ إلا بحسه الكامن وقد لا يتفق اثنان على تأويله تأويلا واضحاً جلياً.
ولو أننا ترجمناه بالحرف لجاء كأحد الرسوم التي ابتدعها أنصار التكعيب يقف المشاهد أمامها فلا يدري أجبلا يرى أم شجرة أم إنساناً.
لذلك اضطررنا إلى ملء بعض الفراغ بين الخطوط، وإلى الالتجاء لكسر النتوءات عند نقل بعض المكعبات المبهمة الصارمة، فجاء هذا النشيد أقرب إلى البيان المألوف دون أن يخرج عن أصله الرمزي الذي يحتاج إلى كثير من الاستغراق في تفهم معانيه
وخفنا أن نكون تجاوزنا حد الخطوط الأصلية في النقل فرجعنا إلى عالم معروف من علماء الغرب ممن أحاطوا بفلسفة نيتشه وذهبوا إلى حد بعيد في تحليلها وهو حضرة الدكتور روبرت ربننجر الأستاذ في جامعة فينا نعرض عليه ما رأيناه في رموز نشيد الصحراء، ونسأله إقرارنا على ما أصبنا فيه وتصحيح ما قد نكون ضللنا في تبيانه، فوردنا جوابه مؤرخاً في ١٩ أبريل من هذه السنة وفيه يقول: