الوقوف على غرض القائل وما يرمي إليه، والى غير هذا الهدف لا يباح له أن يصوب النظر، إذ المقصود إنما هو الحكم للقائل أو عليه، والوقوف على حظه من العبقرية الفنية، وليس مما يصح في منطق العقل أن نحكم على رجل بغير مقصوده، وأن نؤاخذه بغير ما يريده!
إن من الواجب على القاضي في عرف القانون أن يحاول جهده الكشف عن نية المتهم فيما ارتكبه ليحكم عليه في غير ما حيف ولا جنف، والناقد لا شك له مكانة القاضي ومهمته، فمن الواجب عليه كذلك أن يفهم كلام القائل (حسبما أراد به وقصد إليه)، والسابقون من النقاد قد عبَّدوا السبل إلى ذلك، فاهتموا بالتغلغل في شخصية الشاعر أو الكاتب، والكشف عما أحاط به من العوامل والمؤثرات ليكون ذلك في هداية الناقد ومعونته على فهم القائل حق الفهم، ولذلك يقول (سانت بوف): إن من أراد أن يكتب عن شاعر أو كاتب فليبحث حياته وسيرته بحثاً دقيقاً ليعرف كيف كان يعيش في منزله وفي الخارج حتى يمكن تصويره في جميع صوره، ومن المأثور عن هذا الناقد الكبير أنه كان يهتم بقراءة رسائل الذين كان يرغب في الكتابة عنهم الخصوصية وكذلك مفكراتهم واعترافاتهم لأنهم يظهرون فيها غالبا بمظاهرهم الحقيقية
ثم هناك ناحية هامة لا نحسبها تخفى على القارئ الفطن، وهي أننا إذا تركنا الناقد يفهم في الكلام كما يشاء، ويحكم على الأثر المنقود حسبما يذهب إليه فهمه وتصوره، فان حكمه - والحال هذه - يكون على مواهبه هو، ومدى إدراكه وفهمه، لا على مواهب القائل ومدى ما عنده من الفن والعبقرية. ولا شك أن هذا تعطيل لمهمة النقد، وخروج بالحكم الأدبي عن وضعه، ومن ثمَّ فقد أخذ الوهم بعقول بعض الناس فزعموا أن النقد لا حقيقة له، لأنه ليس إلا فهم الناقد لا فكرة القائل، بمعنى أننا إذ نكشف عن معنى في تعبير أدبي، فلسنا نكشف في الواقع عن معنى قصد إليه الشاعر أو الكاتب، ولكنا نكشف عن معنى انقدح في ذهننا وتمَّثل لفهمنا! وقد يكون هذا المذهب صحيحاً أو غير صحيح، ولكنا لا شك نرده على أصحابه إذ نطلب من الناقد أن يكون فهمه إنما هو لمقصود القائل وما يرمي إليه، وهذا أمر هين على الناقد المستكمل الأداة المتدرب بالمران