كلام المؤلف، وشعر الشاعر، وبيان الخطيب فان من وراء هذا كله أشخاصاً ينطقون ويشعرون، فإذا ما خالطنا هذه الآثار ومازجناها، أحطنا بظواهر أصحابها وبواطنهم، واتصلنا بأسرارهم ودخائلهم، وعرفنا خصائصهم وطبائعهم، واهتدينا إلى أخلاقهم وميولهم، ووقفنا على سلوكهم وأوضاعهم، وفي هذا كله ما فيه من ثقافة للذوق، ومتاع للعقل، ثم فيه ما فيه من إفادة للناقد، وتسهيل عليه في درك الحقيقة التي ينشدها، والصواب الذي يسعى إليه.
وهنا سؤال لا بد منه، وقد يكون القارئ فطن إليه من قول العكبري:(ومنهم من قصد التعصب عليه، ونسبه إلى غير ما كان قد قصد إليه)، فأن القائل قد يقصد في قوله إلى شيء، ولكن الناقد يذهب بفهمه إلى شيء آخر، ما دام اللفظ يتحمله، والتعبير يتسع له، ثم إن الإفهام تختلف، والنقاد يختلفون في استخلاص المعنى من اللفظ، (فمنهم من تكفيه اللمحة الباردة لينتبه إلى النكتة اللطيفة والتلميح البعيد المستظرف في عروض كلام الكاتب فيعدَّ ذلك له من القلائد ويفهمه حسبما أراد به وقصد إليه، ومنهم من يحسبها جملة جرى بها قلم الكاتب عن غير تعمد، إذ أنه يرى فيها شيئاً يشبه وجهاً محجوباً بستر صفيق فلا يدري أحسن هو أم قبيح، ومنهم من يمرَّ بالكلام ولو سألته ماذا أراد به كاتبه لعجب من سؤالك! إذ أنه لم يرَ فيه شيئاً استوقف خواطره، وعلى حسب ذلك الفهم وذلك الشعور ينتقد ويحلل) ويقدَّر ويحكم، وأنت لو نظرت إلى النقاد الذين انتقدوا المتنبي مثلا، لعجبت من مدى خلافهم في تفهم معانيه، والوقوف على أغراضه، وهو نفسه يصوَّر ذلك في أبرز صورة إذ يقول:
أنام ملء جفوني عن شواردها ... ويسهر الخلق جراها ويختصم
إذن فماذا يكون حظ (الحكم الأدبي) من فهم الناقد، وكيف يقع موقعه من الحق والصواب ما دام للناقد أن يذهب بفهمه على ما يرغب، وما دامت إفهام النقاد تختلف في الدرجة والطاقة على حدّ تعبير العلميين!
والجواب على هذا السؤال سهل قريب، والتعليل له أسهل وأقرب، فان الأمر ليس منوطاً برغبة الناقد يذهب فيه مذهبه ولكن هناك قيود والتزامات، فالفهم المعتبر عندهم في تكوين الحكم الأدبي، والذي يجب أن يتوجه إليه الناقد بكل ما عنده من علم وزكانة، إنما هو