جهة أخرى يستطيع الناقد أن ينهض بمهمته، وأن يخدم الأدب والفن كما يجب، فيميز بين الخبيث والطيب، ويفصل بين الشريف والأصيل، ثم هو يقضي في ذلك ونفسه مطمئنة، ورأيه عن ثقة وتثبت. وقد أجاد الآمدي وأفاد في هذا المعنى إذ يقول في صدر باب من كتابه الموازنة:
أما بعد: فإني أدلك على ما تنتهي إليه البصيرة، والعلم بأمر نفسك في معرفتك بأمر هذه الصناعة - يريد صناعة النقد - والجهل بها، وهو أن تنظر ما أجمع عليه الأئمة في علم الشعر من تفضيل بعض الشعراء على بعض. . . فأن علمت من ذلك ما علموه، ولاح لك الطريق التي بها قدموا من قدموه، وأخروا من أخروه، فثق حينئذ بنفسك، واحكم يستمع حكمك، وإن لم ينته بك التأمل إلى علم ذلك، فأعلم أنك بمفردك عن الصناعة. . . لأن كل امرئ إنما يتيسر له ما في طبعه قبوله، وما في طاقته تعلمه، فينبغي أصلحك الله أن تقف حيث وقف بك، وتقنع بما قسم لك، ولا تتعدى إلى ما ليس من شأنك ولا من صناعتك!!
على أننا إذ نقول الفهم، فما نعني فهما كالذي يقصد إليه عالم كالعكبري مثلا إذ يقول في مقدمة شرحه للمتنبي:
(وأما بعد، فإني لما أتقنت الديوان الذي اشتهر ذكره في سائر البلدان، وقرأته قراءة فهم وضبط. . . ورأيت الناس قد أعربوا فيه بكل فن وأغربوا، فمنهم من قصد المعاني دون الغريب، ومنهم من قصد الأعراب باللفظ القريب، ومنهم من أطال فيه وأسهب غاية التسهيب، ومنهم من قصد التعصب عليه، ونسبه إلى غير ما كان قصد إليه، فاستخرت الله تعالى وجمعت كتابي هذا. . . وجعلت غرائب إعرابه أولا، وغرائب لغاته ثانياً، ومعانيه ثالثاً. .) نعم! نحن لا نعني هذا الفن من الفهم وما هو على غراره من الأساليب التي انتهجها القدماء في شرح الآثار الأدبية، لأن فهم الآثار الأدبية ليس هو بتفسير الغريب، وإعراب المشكل من التراكيب، والتنبيه على مذاهب الاستعارات والكنايات وما إلى ذلك من اصطلاحات أهل البيان، فما هذه كلها إلا مجهود ضئيل قد يأتي بشيء ولكنه لا يأتي بكل شيء، وإنما الوضع الصحيح لفهم الآثار الأدبية الذي يولد فينا الذوق الأدبي، ويقوي فينا الشعور بالجمال، ويصل بنا إلى مقصد الشاعر أو الكاتب، هو أن نستنطق الأثر الأدبي في كل ما يلابسه ويحيط به، وأن نتبين ما هناك من ميول وأهواء، ونزوع واتجاه، في