للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

جهة القائل لا إلى جهة الناقد. قال أبو عثمان: (قال بعض جهابذة الألفاظ ونقاد المعاني: المعاني القائمة في صدور الناس، المتصورة في أذهانهم، المختلجة في نفوسهم، والمتصلة بخواطرهم، والحادثة عن أفكارهم - مستورة خفية، وبعيدة وحشية، ومحجوبة مكنونة، وموجودة في معنى معدومة، لا يعرف الإنسان ضمير صاحبه، وحاجة أخيه وخليطه، ولا معنى شريكه والمعاون له على أمور، وعلى ما لا يبلغه من حاجات نفسه إلا بغيره، وإنما يحيي تلك المعاني ذكرهم لها، وإخبارهم عنها، واستعمالهم إياها، وهذه الخصال هي التي تقربها من الفهم وتجليها للعقل، وتجعل الخفي منها ظاهراً، والغائب شاهداً، والبعيد قريباً؛ وهي التي تخلص الملتبس، وتحل المنعقد، وتجعل المهمل مقيداً، والمقيد مطلقاً، والمجهول معروفاً، والوحشي مألوفاً، وعل قدر وضوح الدلالة وصواب الإشارة، وحسن الاختصار، ودقة المدخل، يكون ظهور المعنى. وكلما كانت الدلالة أوضح وافصح، وكانت الإشارة أبين وأنور، كان أنفع وأنجع في البيان. . . والدلالة الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان الذي سمعت الله يمدحه، ويدعو إليه، ويحث عليه. بذلك نطق القرآن، وبذلك تفاخرت العرب، وتفاضلت أصناف العجم. . . والبيان اسم لكل شيء كشف لك عن قناع المعنى، وهتك لك الحجب دون الضمير، حتى يفضي السامع إلى حقيقته، ويهجم على محصول، كائناً ما كان ذلك البيان، ومن أي جنس كان ذلك الدليل، لأن مدار الأمر، والغاية التي إليها يجري القائل والسامع: إنما هو الفهم والإفهام. . . وقال علي بن الحسين رضي الله عنه: لو كان الناس يعرفون جملة الحال في فضل الإستبانة، وجملة الحال في صواب التبيين لأعربوا عن كل ما تخلج صدورهم ولوجدوا من برد اليقين ما يغنيهم عن المنازعة إلى كل حال سوى حالهم، وعلى أن درك ذلك كان يعدمهم في الأيام القليلة العدة، والفكرة القصيرة المدة)

ولعمري لقد أصاب الجاحظ شاكلة الصواب في قوله: إن الغاية التي إليها يجري القائل والسامع إنما هي الفهم والإفهام، فالمسألة قسمة بين القائل والناقد، فإذا كان من الواجب على الأول أن يقول ما يفهم، فأن من الواجب على الثاني أن يفهم ما يقال، ومن ثَمَّ كان طلبهم في الشاعر الحاذق بالصناعة أن يكون شعره مفهوماً واضحاً يسبق معناه ولفظه، وكان شرطهم في الناقد إذ كان يدعي علم الشعر ويتحقق بالأدب، أن يكون يفهم معاني الشعر، وله دربة الغامض والظاهر منها. وهذا رأي قويم تقع به مهمة البيان موقعها من جهة، ومن

<<  <  ج:
ص:  >  >>