للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والمعرفة إنما هي قوام الحياة، وصلة الإنسان بالعالم. ثم كأني بالدكتور الفاضل قد نسى أنه من قبل ذلك ردَّ كتاب رسائل الأحزان الرافعي، وكانت حجته في ذلك أنه قرأ الكتاب فلم يفهمه وهو لا يستطيع أن يحكم على شيء استغلق عليه فهمه، وتعذر دركه!

ومهما يكن من شيء فإن هذا الذي نقله الدكتور طه على أنه من طريف أوربا له شبيه طريف في تاريخ الأدب العربي، فقد حدَّث ابن سنان الخفاجي قال: جرى بين أصحابنا في بعض الأيام ذكر شيخنا أبي العلاء بن سليمان المعري، فوصفه واصف من الجماعة بالفصاحة، واستدل على ذلك بأن كلامه غير مفهوم لكثير من الأدباء، فعجبنا من دليله وإن كنا لم نخالفه في المذهب وقلت له: إن كانت الفصاحة عندك بالألفاظ التي يتعذر فهمها فقد عدلت عن الأصل في المقصود بالفصاحة التي هي البيان والظهور، ووجب عندك أن يكون الأخرس أفصح من المتكلم، لأن الفهم من إشاراته عسير بعيد، وأنت تقول: كلما كان أغمض وأخفى، كان أبلغ وأفصح. وعارضه أبو العلاء صاعد بن عيسى الكاتب وقال: صدقت. إننا لا نفهم عنه كثيراً مما يقول، إلا أنه على قياس قولك يجب أن يكون ميمون الزنجي الذي نعرفه أفصح من أبي العلاء، لأنه يقول ما لا نفهمه نحن ولا أبو العلاء أيضاً، فأمسك!

وسواء أأمسك الدكتور طه كذلك الرجل أم لم يمسك، فما يعنينا ذلك، وليس من وُكدنا أن نطيل في تفنيد دعوى باطلة لا يمسكها دليل من عقل أو فهم، وما كنا لنعرض لها بذكر لولا أن رأيناها قد جازت عند بعض الناس. وإننا لنمضي فنقرر بأنه إذا كان الحكم فرع التصور كما يقول المناطقة، فان الفهم لا شك دعامة من دعامات الحكم الأدبي، وشرط أساسي لا بد منه في تقدير الكلام والحكم على الأثر المنقود، كما هو شرط في الحكم على أي شيء آخر، وقديما قيل: يكفي من حظ البلاغة ألا يُؤتى السامع من سوء إفهام الناطق، ولا يؤتى الناطق من فهم السامع، ولا جرم أن الناقد إذا لم يفهم، واستباح لنفسه أن يحكم، فهو إما مسيء إلى صاحب الأثر المنقود، فإذا كتب الله له السلامة من الإساءتين فذلك شيء بقضاء وقدر، ولا صلة له بتقدير الفن ومقاييسه، ولا يد فيه ولا عمل لمواهب الناقد وملكاته!

هذا وللجاحظ كلام حلو مستقيم يدخل في هذا الباب، فلا بأس من إيراده وإن كان مرده إلى

<<  <  ج:
ص:  >  >>