ولا يسطو القلقُ الفكري بخاصة في حالة الحيرة من أمر هذه الحياة إلا على الإنسان الذي يؤدي ثمناً باهظاً من أوجاعه لكل لذَّة يختلسها كالسارق من قوَّته الأسيرة في ضعفه الجائر
إن مثل هذا الإنسان إذا عززته القوة الخفية بالحس المرهَف، يطالب الدنيا ببدلٍ لما يبذل فيها فيستنطق نفسه والآفاق ليعلم ما إذا كان لهذه الإنسانية المعذَّبة المجاهدة ما يبرر محنتها وجهادها
وفريدريك نيتشه كان ذلك الإنسان فما أَرضته من الفلسفة اللاهوتية تلك الأحاجي التي أُحيطت المسيحية بها، وما كان ليرضى من جهة أخرى بهذه القوة الهوجاء التي صوَّرها شوبنهور موجدةً لإنسان لم يُعط له إلا التصور لإقامة أشباحٍ تتراقص حوله وهي غير كائنة إلا في وهمه
ونظر نيتشه إلى الوجود فرأى وراء صوره المتحولة مادة تتعالى عن الاندثار، فنشأت فيه فكرة العودة المستمرة، وبدأت صورة زرادشت ترتسم في ذهنه حتى استكملها فأنشأ كتابه في أوقات متقطعة من سنتي ١٨٨٣ و١٨٨٥ في فترات كانت تسكن فيها حِدَّة دائه أو هو يسكنها بما كان يتناوله من جرعات الكلورال المخدر. وهو نفسه يقول: إنه كتب كلاًّ من الأجزاء الثلاثة الأولى من زرادشت في مدى عشرة أيام كان فيها مأخوذاً بإلهامه خاضعاً لقريحة تحكمت فيه فلم يستطع مقاومتها حتى أرهقته إرهاقاً
إذا نحن عرفنا هذا تجلت لنا العوامل التي ألقت على زرادشت وشاح الأحلام، فان نيتشه يقبض في فصوله على مشاعر قارئه ليمر به على رؤى يتسامى الخيال فيها إلى أوجه مفلتاً من رقابة القوى الواعية فكأنه يسير بمطالعه في عالم أحلام تبعث أشباحها من انطباعات القوى الواعية ولكنها تتبع في مرورها وحركاتها ما نحسبه تضعضعاً في عالم القوى الساهية المجهولة
لقد ماشينا نيتشه في حلمه وهو يستعير لعقله الباطن أو لسريرته أو لفكرته الساهية اسم زرادشت الفارسي الذي قال بالخير والشر كقوتين تتنازعان حياة الإنسان، فرأينا زرادشت المزيف لا يقلد الأصلي باتخاذه أتباعاً له وباقتباسه لهجة حكماء الشرق إلا ليعارض فكرة الخير والشر قائلاً: إنها نشأت دخيلة على الإنسانية، وأن ليس لهذه الإنسانية أن تتفوق على ذاتها إلا بإنكار الخير والشر وتحطيم ألواح الشرائع المقدرة لقيم الأعمال، لأن كل شعب