ولكن نيتشه المتلبس خيال زرادشت في رؤياه لم ينتبه إلى أنه يرتكب تناقضاً بيناً في دعوته إذ ينكر ما يراه من خير وشر طلباً لحالة جديدة يراها هو خيراً يريد أن يتسلح به للقضاء على شر ينكر وجوده
ولو كانت الحقيقة كامنة وراء الخير والشر كما يدعي زرادشت الجديد، أو بتعبير آخر لو أن هنالك حقيقة مجردة عن الخير فلماذا يطلب زرادشت هذه الحقيقة وهو يعلن أنها الخير كل الخير للإنسانية إذا هي أدركته؟
إن تحديد الخير والشر في الكلمات العشر إنما هو أساس كل شرعة تكفل حق الفرد ونظام المجموع
لقد تتناقض الأحكام التي تسنها الحكومات والجماعات في مجال الأزمان مستوحاة من حالةٍ موقتة تدفع إليها حاجةٌ ملحَّةٍ، فتُكتب ألواحٌ تستبدَلُ بتبدُّل الوضع والملابسات ولكنَّ السننَ التي تسن لهم من الشريعة الموحى بها لا يمكن أن تتعارض إذا هي سلمت من دخيلات الأوضاع الإنسانية. وكلُّ شرعةٍ أصيلة تحتفظ بطابع مصدرها تتوافق حتماً وكلَّ شريعةٍ تحدَّرت مثلها من ذلك الأصل
إن زرادشت الجديد لم يَجُلُ في مسارح حلمه فاتحاً لسريرته مجالات التفكير إلاَّ وهو يحتفظ بانطباعاتٍ من تواريخ الأمم القديمة الوثنية وبصورٍ متناقضة من القوانين التي أبدعتها حكومات الغرب وجماعاته ونقاباته الصناعية والمالية فتمثَّلت هذه السننُ أشباحَ ألواحٍ نتراقص عليها ألوانُ البِدَع، فما وسع زرادشت إلا أن يثور عليها ويدعو اتباعه إلى تحطيمها
أما اللوحان الأوَّلان وكلمة عيسى بأن يعامل الإنسان أخاه بما يريد أن يعامله أخوه والشريعة الأحمدية التي جاءت على أساس هذا المبدأ بخير الكلِّيات تُستنبط منها الأحكام لكل جماعة ولكل زمان، فان زرادشت لم يبحثها، مع أن نفسه كانت تصبو إليها لشعوره بوجودها وراءَ أقنعة النظم التي أسدلها الغرب على مجتمعاته. وإذ كان لم يتميزها فما ذلك إلا لأن دماغه كان يتصدَّع بما حُشر فيه من فلسفة اليونان القديمة ومن مشاحنات أعلام عصره الذين شُغلوا بالجدل والمماحكات المنطقية المجردة حتى أتوا بنظريات تورث الدوار