وتبلبل الفكر فيضطر من أَلمَّ بها إلى نبذها جميعاً لأنها كدود القبور يلتهم بعضها البعض الآخر بعد أن تتغذى من جيفة لا حياة فيها
وفي هذا الحلم يسير زرادشت هادماً كلَّ ناموسٍ ونظامٍ لينبئ الناس بالخلود وبقاء الذات في وجودٍ شبَّهه بالساعة الرملية ينقلب أبداً قسمها المفرغ لاستفراغ قسمها الممتلئ
ولا يطمعنَّ القارئ في الظفر من زرادشت بما يثبت هذه العقيدة الراسية على خلود مبهم وعودة أشد إبهاماً لأنه لن يظفر منه صور يلمحها لمحاً في بيان شعري يتلبس الفلسفة دون أن يكون فيه أثرٌ لأي استقراء أو لأي تعليل فيخرج من استغراقه وهولا يدري أيقصد نيتشه من العودة المستمرة ما يتوهمه الملحدون من خلود الآباء في الأبناء أم هو يرمي إلى عودة الشخصية بالذات ناسيه ماضيها تاركة في كل مرحلة من مراحلها جثة تتلواها جثة على مدى الأحقاب.
لقد تمرد نيتشه أمام العدم كما قلنا وخفيت عنه حقيقة الدين الذي أخذ به الغرب عن عيسى فأحاطه بالمعميات كما خفيت عنه حقيقة ما أنزل على محمد فشوَّهه هذا الغرب بالافتراء والتشنيع تعصباً وجهلاً فوقف مفكراً جباراً لا يستسلم لفكرة العبث في غاية الكون ولا يرضى بالنظم الاجتماعية التي أوجدتها المدنية وأسندتها إلى الدين. وهكذا هبَّ يطلب للإنسانية إلهاً منها يسودها، وللأرض معنى أبدياً يحول كل زوال فيها إلى خلود مستمر التجدد بين الخفاء والظهور في محدود غير محدود. . .
ولو تسنى لنيتشه أن ينفذ حقيقة الإيمان الذي دعا عيسى إليه مكملا ما جاء به موسى لكان تجلى له إيماناً بالقوة ترفع الضعفاء لا بالضعف يسلط عليهم الأقوياء، ولو تسنى له أن يستنير بما جاء به الإسلام من مبادئ اجتماعية عملية عليا تماشي ما جاء به عيسى ولا تنقضه لأدرك أن في الدين الحق دستوراً يهدم كل ما أراد هو هدمه من صروح الفساد في المجتمع، ويوجد الإنسان المتصف بمكارم الأخلاق محباً للحياة والقوة والجمال والحرية دون أن يكسر حلقة الإنسانية ويحاول الانطلاق منها وهو لا يزال يلبس تراب الأرض ويرسف في أغلالها
ولكن نيتشه باندفاعه إلى معارضة الفلاسفة من معاصريه وبثورته على التفكير الديني والتفكير المطلق في آن واحد رأى أن التكامل النبل عطف الألوهية الراسخة في الأذهان