من شذوذ هذه العقلية الغالبة في الغرب ما نعاني ويعاني الشرق من أرزاء ومحن!
ومن شذوذ هذه العقلية الطاغية ما تصبَّب أمس من نفوس الشباب على أديم الأرض! فدحتهم تركة الآباء الغارمة، وأحفظتهم سياسة الأصدقاء الجارمة، فغضبوا للحق الطعين، وفزعوا للأمل المخيَّب، ففاضت أرواح طاهرة، ودميت وجوه حرة، وضجت بالأنين مستشفيات، وجأرت بالشكوى سجون، وتجاوبت بالحزن بيوت، وتألف من هذه السطور الحمر صفحة بيضاء من تاريخنا الوطني الحديث.
جف اللسان وحفى القلم من استعداء القانون واستصراخ العدالة؛ والقانون والعدالة كلمتان لا تعنيان إلا إرادة القوى ومنفعة الغاصب؛ فإذا لم يكن بجانب الحق قوة تؤيده، وبازاء العدل سلطان يقيمه، كان استمساك الضعيف بهما استمساكاً بالهباء المنتثر!
إذا أعوزتك اليوم قوة السلاح فلا تعوزك قوة الخلق؛ وقوة الخلق ميسورة لك متى أقنعت نفسك بأنك إنسان له إرادة قبل الوظيفة، وكرامة فوق المال، وواجب مع الحق، وتاريخ بعد الموت. وقوة الخلق هي التي تجعل للأمة كلمة لا تتعدد، وسياسة لا تتردد، ومهابة في الصدور تكسر من طرف المحتقر، وتكف من شرة الطامع، وتصد من عادية الدخيل.
جربنا كل شئ في جهاد العادين فما أغنى عنا جهاد ولا تجربة، لأن العُدة كانت قوية إلا من ناحية الخلق. وإذا لم يكن الخلق كانت الشهوة والأثرة والتحاسد والتخاذل والتواكل والهوى؛ وهذه الرذائل مجتمعة ومتفرقة كانت في مدى أعوام الجهاد الستة عشر وباءً ذريعاً تسلطه الأقدار من حين إلى حين على جهود الشباب فيفنيها، وعلى آمال الأمة فيذويها، ثم يقطع ما بيننا وبين الزمن المتقدم فنسقط في هوة الماضي على الموقف الأول.
هانحن أولاء على جلَد الصخرة التي وثبت من فوقها الأمة: وراءنا الهدنة التي قُسمت عليها الأسلاب ووُزعت بينها الغنائم؛ وأمامنا أطلال من الجهود العافية، وأنقاض من الأماني المحطمة؛ وعن أيماننا وعن شمائلنا آثار أقوام كانوا قبلنا فغبَّروا في وجوهنا وانطلقوا خفافاً متساندين إلى الأمد البعيد. فهل لسادتنا الذين يتولون استئناف الجهاد أن يجربوا في قيادتهم قوة الخلق؟ إنهم إن فعلوا ذلك أمنوا ولا ريب نكسة العلة، ورِدَّة الهزيمة، وضلة الطريق. جاهدوا أنفسكم قبل أن تجاهدوا العدو، فإن من لم ينتصر على نفسه لا