لحظته خديجة ذات يوم ولمست كتفه فأفاق قليلاً ورفع عينيه إليها.
نعم. إنها هي التي كانت ترقبه منذ زمن؛ وأن لشعورها نحوه جذوراً ممتدة في أغوار قلبها، امتداد عرق الذهب في المنجم العميق. ما مبدأ هذا الشعور؟ لعله ذلك اليوم الذي احتفلت فيه نساء قريش بعيد لهن، وكانت خديجة بينهن عند وثن من الأوثان فبرز لهن أحد اليهود ونادى بأعلى صوته: يا نساء تيماء! إنه سيكون في بلدكن نبي يقالا له محمد، فأيما امرأة استطاعت أن تكون له زوجاً فلتفعل!) فقذفته النساء بالحجارة وقبحنه وأغلظن له، إلا خديجة فأنها أطرقت وكأن شيئاً وقع في نفسها من كلامه.
ثم حدث بعد ذلك أن خديجة - وقد كانت ذات مال كثير وتجارة تبعث بها إلى الشام وتستأجر من أجلها الرجال - أرسلت الشاب (محمداً) في تجارتها وضاعفت له الأجر وأرسلت معه غلامها ميسرة، فعاد رابحاً ضعف ما كان تربح التجارة على يد غيره، لأمانته واجتهاده
وقص عليها عندئذ غلامها (ميسرة) وقد راقب محمداً في رحلته ما رآه من خلق هذا الشاب المستقيم الأمين، ولعله أخبرها فيما أخبر أن أحد الرهبان قابله، وأنهما تذاكرا ملياً في أمر النبي الموعود المسمى (محمد) كل هذا مع ما تشبعت به الأذهان من أساطير النبوة المنتظرة قد ألقى في روع خديجة أنها أمام شاب لا يبعد أن يكون هو النبي الموعود.
فإذا أضفنا إلى كل هذا أن محمداً كان فتى في الخامسة والعشرين كريم الخلق جميل المنظر، وأن خديجة كانت امرأة في الأربعين، أدركنا أن مثلها كان لابد له أن يحب مثله. وهل يمكن أن يسمى هذا الشعور باسم آخر غير (الحب)؟ ذلك الذي يدفع امرأة ذات شرف وثروة أن تبدأ هي الخطوة الأولى نحو فتى فقير يتيم؟ هي التي قد تقدم إليها أكرم رجال قريش نسباً وأعظمهم شرفاً وأكثرهم مالاً، طلبوها وبذلوا لها الأموال فلم تلفت إليهم، وأرسلت تابعتها (نفيسة) دسيساً إلى الشاب محمد تعرض عليه يدها
منبع الحب إذن كان قلب (خديجة)، ولقد كان هذا الحب سامياً قوياً عظيماً فاستطاع أن يفتح قلب محمد وأن يملأه كل تلك الأعوام التي عاشتها خديجة، بل إن الحب لم ينطفئ بموت خديجة، ولقد ظل مكانها من قلبه قائماً دائماً لم تستطع قط امرأة أن تزاحمها فيه.
هذا هو حب محمد الأول، وتلك ناحية من نواحي الفضل المجهولة لم يذكرها الناس كثيراً