بالنشوة، ويرفع النفس بالحماس، كاللحن القوي ينساب في الأذان الأمية نغما من غير معنى، وجمالا من غير تحديد، ووحياً من غير بيان، ولذة من غير وعي.
ازداد على الدرس والأيام فهمي للمتنبي، فصار للذوق الساذج حجة من الفن، وللحب الذي صادف خلاء من القلب قوة من المنطق. وكان أستاذنا المرصفي - تغمده الله بالرحمة - لا يصح في رأيه أحد من الشعراء المولدين وبخاصة أبو الطيب، فدس في أذواق تلاميذه الكراهة له والنفور من شعره؛ وتأثر بذلك الإيحاء رفيقاي طه حسين ومحمود زناتي، وقاومه في نفس تلك العوامل الأولى فلم أر رأيهما فيه، ولم أمالي تعصبهما عليه؛ وكثر ما كنا نتمادى في أدبه، ونتهاجى بسببه! ولا زلنا نتذاكر تلك المداعبات الأدبية الأخوية فنستروح منها شميم الصبي الغريض، ونسيم العيش الأبله، ونفخ الولاء الخالص.
إن أبلغ ما أثر في نفسي من حياة المتنبي منذ عرفته هي هذه النفسية المعذبة بين الطموح والعجز، وتلك الشخصية المذبذبة بين الوسيلة والغاية: سمت نفسه منذ أيفع إلى معالي الأمور، ولم يجد معيناً عليها غير المال والقوة. أما القوة فقد ألتمسها في قيادة الأعراب باسم الدين أو باسم العدالة فأخفق، وأما المال فأحتال عليه بوحي العبقرية وقوة الشاعرية فأصاب. وكان الشاعر المغامر من هذه الوسيلة الأرضية، ومن تلك الغاية السماوية، بين عاملين مختلفين: عامل يرفعه فيدل على الملوك، ويتأبى على السوقة، ويتجافى عن الهون. ويقول لبعض الأمراء:
وفؤادي من الملوك وأن كا ... ن لساني يرى من الشعراء
وعامل يضعه للهبة هشاشة السائل، ويحرص على المال حرص الشحيح، ويعفر خده الأصعر في البحث عن درهم، ويقول لبعض الأغنياء:
تهلل قبل تسليمي عليه ... وألقى ماله قبل الوساد
ولكنه في كلتا الحالين كان طالب ملك، وعاشق مجد وخاطب دولة