الميت! لماذا تصرخ هذه المخلوقات؟ ما هذا الأسى الذي جعل من سحنهم دمامه شوهاء! كلا لم أعد من أهل هذه الدنيا، ولم يردني إليها صراخ أو بكاء، وددت لو تنقطع أسبابي بها لأحلق في عالمي الجديد. ولكن وا أسفاه، إن بقية من حريتي لم تزل عزيزة علي، أسيرة إلى حين. فلآخذ نفسي بالصبر وإن شق علي. وجاءت أمي بملاءة وسجت الجثة، ثم أخرجت العيال والخدم، وأخذت زوجي من يدها، وغادرتا الحجرة، وأغلقتا الباب. لم يغيبا عن ناظري لأن الجدران لم تعد حائلاً يحجب شيئاً عن بصري، فرأيتهما وهما تغيران ملابسهما وترتديان السواد، ثم اتجهتا نحو فناء الدار وهما تحلان من ضفائرهما وتحثوان التراب على رأسيهما، وخلعتا النعال وهرعتا إلى باب الدار، وانطلقتا تصوتان وتلدمان، ومضت تصرخ (وا أبناه) فتصرخ زوجي (وا زوجاه) ثم تهتفان معاً (يا رحمتا لك يا توتي المسكين! خطفك الموت ولم يرحم شبابك) وتركتا الدار على تلك الحال من العويل والنواح، وأخذتا في طريقهما، حتى إذا مرتا بأول دار تليهما برزت لهما ربة الدار في ارتياع وصاحت بهما:(مالكما يا أختاي!) فأجابت المرأتان (خربت الدار، وتيتم الصغار، وثكلت الأم، وترملت الزوج، يا رحمة لك يا توتى!) فصوتت المرأة من أعماق صدرها وصاحت (وا حر قلباه. . يا خسارة الشباب. . . يا ضيعة الآمال. . .) وتبعت المرأتان وهي تحثو التراب على رأسها وتلطم خديها، وكلما مررن بدار برزت ربتها وانضمت إليهن، حتى انتظم الحشد نساء القرية جميعاً، وتقدمتهن امرأة دربة بالنياحة، فجعلت تردد اسمي وتعدد فضائلي، وذهبن يقطعن طرقات القرية باعثات الحزن والأسى في كل مكان. هذا اسمي تردده النائحات، ما له لا يحركني؟!
أجل، لقد صار الاسم غريباً غرابة هذه الجثة المسجاة، وبت أتساءل: متى ينتهي هذا كله؟ متى ينتهي هذا كله؟! وعندما أتى المساء جاء الرجال وحملوا الجثة إلى بيت التحنيط والصراخ يطبع علينا، ووضعوها على السرير بالحجرة المقدسة. كانت الحجرة مستطيلة ذات اتساع كبير، وليس بها نافذة إلا كوة تتوسط السقف، وفي الصدر قام السرير، وعلى الجانبين رفعت رفوف رصت عليها أدوات الكيمياء، وفي الوسط - تحت الكوة - حوض كبير مليء بالسائل العجيب، وخرج الرجال فلم يبق إلا رجلان، وكان الرجلان حكيمين من المشهود لهما في فنهما، فأخذا في عملهما دون إبطاء، وقد جاء أحدهما بطست، ووضعه