على كثب من السرير، ثم تعاونا معاً على تجريد الجثة من ملابسها حتى بدت عارية لا يحجبها شيء. فعلاً ذلك في هدوء وعدم اكتراث، ثم قال الذي جاء بالطست وهو يغمر عضلات صدري وذراعي:(كان رجلاً قوياً. . . أنظر!)؛ فقال الآخر:(كان توتي من رجال الأمير، يؤاكله ويشاربه، وفضلاً عن ذلك، فقد خاض غمار الحروب!)؛ فقال الذي جاء بالطست متحسراً:(لو أن الأجسام تعار!)؛ فأجابه الآخر ضاحكاً:(أيها العجوز، ما جدوى جسد ميت؟!)؛ فقال وهو يهز رأسه:(كان قوياً حقاً!)؛ فقال الآخر ضاحكاً وهو يتناول خنجراً حاداً من أحد الرفوف:(فلنختبر قوته!) وطعن الجانب الأيسر فيما يلي الصدر بخنجره، حتى غاب نصله، وشقه حتى أعلى الفخذ، وأعمل في الداخل يده بمهارة ودربه، ثم استخرج الأمعاء والمعدة، وأودعها الطست، وقفاها بالكبد والقلب، فسرعان ما رأيت باطني جميعاً، ولم يستغرق ذلك إلا دقائق معدودة، فالرجل من مهرة المحنطين الذين أتقنوا عملهم أيما إتقان، ورحت أنظر إلى باطني بعناية، وبخاصة إلى معدتي التي عرفت بقوتها ونشاطها، ولم يحل غلافها دون رؤية ما بداخلها بفضل تلك القوة السحرية التي اكتسبها بصري، فرأيت فيها مضغ الأوزة والتين وبقايا النبيذ التي تناولتها على مائدة الأمير مساء الأمس، وذكرت قوله حين عزم علي بالطعام (كل يا توتي واشرب، وتمتع بالحياة أيها الرجل الأمين!). . . رأيت وذكرت دون أن يعرفوني أي تأثر أو انفعال، ودون أن يزايلني عدم الاكتراث العجيب، ثم حولت بصري إلى قلبي فرأيت عالماً حافلاً بالعجائب. رأيت بشغافه آثار الحب والحزن والسرور والغضب، وصور الأحبة والرفاق والأعداء، وقد ترك الهيام بالمجد به فجوة عمقها ما خضت من معارك في بلاد زاهي والنوبة، ولاحت على رقعته مشاهد مروعة لميادين القتال، وأجزاء ملتهبة دامية من أثر ذلك الطمع العنيف الذي بعثني للكفاح بلا رحمة حتى ضممت إلى أرض أسرتي قطعة أرض تجاورها نازعني عليها جار بضع سنين. رأيت فيه جل حياتي وما عانيت من الأهواء، أما الرجل فمضى في عمله يحدوه الهدوء والمران، فأتى بكلاب دقيق وأولجه في أنفي باحتراس حتى تمكن من هدفه، ثم وجهه بدراية وعنف وجذبه بسرعة، فسال مخي الكبير من منخري مادة رخوة تذرو في الهواء ما تجمع فيها من لوامع الفكر ولآلئ الآمال ودخان الأحلام. هذه أفكاري منقوشة أمام عيني، فإذا قارنتها بنور الحق الذي يتخايل