ويرى أنه شبهه بالبئر فيها الماء كلما كان أبعد احتاج أن يطيل المانح حبله. حينئذ تتبدد الشكوك من نفسه، ويذهب الاستغراب عن وعيه وحسه. وإنما سقت هذه الجملة من القول لأطيل التعجب من الأستاذ كيف ينكر على البيانين أن يجعلوا من أغراض التشبيه بيان إمكان المشبه أي بيان أن المشبه أمر ممكن الوجود، وذلك إذا كان أمراً غريباً يمكن أن ينازع فيه، فيعلق على قول المتنبي:
فان نفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال
بقوله: كلامهم في أن الغرض من هذا التشبيه بيان أن وجود المشبه ممكن: مرفوض؛ لأن الأديب لا يضع نفسه موضع المناقش، ولكنه يفرض نفسه على الناس، وكل ما هنالك أن الناس من طبيعتهم إنكار هذا الامتياز، والمعنى فيه شيء من الغرابة في أنه واحد منهم وفاق عليهم. فقال هذا لا غرابة فيه؛ لأن له نظائر وشواهد. اه.
وهذا كلام غريب جداً ووجه غرابته أمران:
أحدهما أنه ينفي الشيء ثم يثبته في وقت واحد وسطر واحد؛ فهو يرفض كلامهم بدعوى أن الشعراء قوم متغطرسون يفرضون أنفسهم على الأجيال وعلى الأذواق وعلى الطبائع، ولكنه يحس أن من طبائع الناس إنكار هذا الامتياز؛ فالشاعر يقول لا غرابة. ولا يقصد العلماء من إمكان ثبوت المشبه أكثر من أن المتكلم يأتي بقضية تقرب إلى الأذهان أن هذا جائز ما دام شبيهه واقعا. وربما كان من الخير أن نسمع للشيخ عبد القاهر الجرجاني يحدثنا في أسرار البلاغة عن هذا الغرض من التشبيه فقد يكون في كلامه مقنع. (فان قلت إن الأنس بالمشاهدة بعد الصفة والخبر إنما يكون لزوال الريب في الأكثر، أتقول إن التمثيل إنما أنس به لأنه يصحح المذكور والصفة السابقة، ويثبت أن كونها جائز حتى لا يكون تمثيل إلا كذلك. فالجواب أن المعاني التي يجيء التمثيل في عقبها على ضربين: غريب بديع يمكن أن يخالف فيه ويدعي امتناعه نحو قوله: فان تفق. . . البيت، وذلك أنه أراد أنه فاق الأنام إلى حد بطل معه أن يكون بينه وبينهم مشابهة ومقاربة بل صار كأنه جنس برأسه، فإذا قال: (فإن المسك بعض دم الغزال) فقد احتج لدعواه وأبان أن لِما ادَّعاه أصلا في الوجود. والضرب الثاني ألا يكون المعنى الممثل غريباً يحتاج في دعوى كونه على الجملة إلى بينة. نظير ذلك أن ينفى عن فعل من الأفعال التي يفعلها الإنسان الفائدة