للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

في نفوس الساقة والباعة. على أن السدارة من ناحية أخرى (حماية) وصاحبها لا يزرأ إلا في نقوده. وفيما عدا ذلك فهو من نفوس القوم حيث تشاء الكرامة ويسموا الأباء والعزة). وبعد مساومة قصيرة رضى صاحبنا بنصف القيمة التي ذكرها.

ووقف السيرة أمام فندق جميل من فنادق (عاليه). وبعد نفخة أو نفختين من بوق السيارة أقبل راكبان: رجل وامرأة يجري أمامها طفلان صغيران.

والرجل ربعة القامة، تخطى العقد الرابع من عمره، جامد الملامح، محني الظهر كأنه يحمل عبئاً ثقيلا. أما الفتاة ففي ربيع الحياة، في قامة هيفاء يخيل إليك أنها نحيلة وما هي بنحيلة؛ ضحوك المبسم في وجه صبوح، ونظرات تشع ذكاء، يكسر منها قليلاً خفر طبيعي ووداعة ملازمة.

وانطلقت بنا السيارة في بطء ملحوظ. فكأن سائقها الذكي فهم من تلفتنا ونظراتنا الشائعة أننا نودع عزيزاً ونشيع غالياً، فلا تحمد السرعة في هذه الحال.

وأطلت زوجة المزامل من نافذة السيارة، وأخذت تجيل الطرف في كل ما يمكنها من اتجاه. والتفت إليها زوجها ونصحها متراضياً بأن تكف عن النظر والالتفات، وإلا أصابها الدوار، ثم إذا كان لابد من النظر إلى الأمام فقط.

والتفتت إليه الفتاة وقالت في وداعة ظاهرة: لست أرى أمامي إلا الزفت؛ فهل تريد لي أن أغادر لبنان وليس ما بقع عليه ناظري إلا الزفت؟ إنني أحب أن أشبع النظر من لبنان، وأشبع الخاطر من فتنته قبل آن أغادر. فبادرها بقوله: ماذا في لبنان مما يفتنك ويتصباك، ويجعلك تعرضين نفسك لخطر الدوار المؤكد؟

عندما خاطبته في شيء من التبرم وكثير من الأغراء في استثارته إلى مشاركتها في متعتها وقالت:

الله! إلا ترى هذه الجبال كيف تهاوت صخورها عند الحضيض، وكيف شخصت برؤوسها الممدة كأنها أعسال رصت صفاً وراء صف؟ ثم إلا ترى إلى هذه الأخاديد، والوهاد كيف تقطعها تقطيعاً بديعاً فتجعل منها مثل ما تجعل الشوارع من المدينة؟ وإليك هذه الأشجار، منها الجبار يقف ثابتاً لا تلويه ريح ولا يثنيه إعصار تستكين إلى ظلها هذه الشجيرات الصغيرات كإنها الحجلان تفيء إلى جنح الأم وتلوذ بحنوها وتدنو قدر ما تدنو من قلبها

<<  <  ج:
ص:  >  >>