الإسلام وسرعان ما استعربوا؛ وظل الباب مفتوحاً على مصراعيه لجميع ضروب الفساد. وقد أعلن علماء اللغة حرباً ضروساً على هذه العربية التي شابتها العجمة، وإن الفضل في انتصار العربية الفصحى وتغلبها على الأخطار الجسام التي هددتها ليرجع إلى ما بذله هؤلاء من جهود، وبالرغم من أن لغة البدو الوثنيين لم تبق كما هي - أو ظلت على أي حال حية على ألسنة المتحذلقين والشعراء فحسب - إلا أنها أصبحت بعد تحوير قليل الوسيط العالمي للحديث بين الطبقات العليا في المجتمع الإسلامي، وفي مستهل العصور الوسطى كانت لغة الحديث والكتابة لجميع مثقفي المسلمين من أي جنسية كانوا: من بلاد الهند حتى المحيط الأطلسي، فكانت لغة البلاط والدين، ولغة الشرع والتجارة، ولغة السياسة والأدب والعلم، وفي القرن العاشر حينما ثل الغزو المغولي عرش الخلافة العباسية وانفرط عقد الوحدة الإسلامية السياسية لم تعد العربية أو اللغة العامة للعالم المحمدي، بل حلت مكانها لهجة سوقية في بلاد العرب وسورية ومصر وبعض الأقطار الناطقة بالضاد، ولو أنها ظلت في هذه الأمصار لغة الأعمال والأدب والتعليم. ونسمع اليوم من مصدر ثقة (أنها آخذة في النهوض، وأنها على وشك أن تسترد ثانية مكانتها الأدبية العظمى) وهي إذا كانت تشغل - بالنسبة إلى هؤلاء المسلمين من غير العرب - نفس المكانة التي تشغلها اللاتينية والإغريقية في الثقافة الأوربية الحديثة، فينبغي ألا يغرب عن ذهننا أن القرآن (وهو أروع آثارها) يحفظه كل مسلم لأول ذهابه إلى المدرسة، وهو يتلوه في صلواته اليومية، ويسيطر على مجرى حياته كلها إلى درجة يكاد لا يصدقها المسيحي العادي.
وآمل أن يغفر لي القارئ تجاهلي - في كتاب كهذا - ما يتعلق بالتاريخ العربي القديم الذي يمكن الإلمام به من الآثار الآشورية والبابلية، كما أن أي كتابة يحاول من ورائها دراسة العرب من سنة ٢٥٠٠ ق. م. حتى بداية العصر المسيحي لأشبه بخريطة رسمتها يد سير جون ماندفيل؛ بيد أن شعباً (غير سبأ أو حمير) من بين شعوب الجزيرة استطاع أن يترك أثراً أبقى من غيره، ذلك هو شعب النبط الذين سكنوا المدن واحترفوا التجارة قبل ميلاد المسيح بزمن طويل، وأسسوا مملكة (بترا) التي كانت رخية متقدمة في الزراعة حتى كان عام ١٠٥م. حين ضربها ودمرها تراجان، وكان هؤلاء الأنباط يتكلمون العربية بالرغم من أنه قد ورد خطأ في أحد نقوشهم أنهم كانوا يستعملون الآرامية في الكتابة؛ ويخلط المؤلفون