هكذا خطب الناس بالأمس لما نعى إليه أخوه مصعب. هو لا يخاف الموت، وإنما آمال لا يمثلها إلا هو، آمال كاد أن يصل إليها وما زال يأمل في الوصل إليها، آمال شيعة له في جميع الأقطار العربية، من يقوم بها من بعده؟
خمسون ليلة وأهل مكة يعانون من الحصار كل ضيق. لابد من انفجار، لابد من حدث حاسم، فلقد كادت أن تزهق الأرواح. جند الشام لا يضيرهم استمرار الحصار، ولكن أهل مكة، أهله وشيعته ورعيته يعانون من الأهوال. صمم ابن الزبير على القتال، أبناء حمزة وحبيب لا يزالون معه، فتيان من خيرة الفتيان أحدهما يقود فريق، والآخر يقود الفريق الآخر. وخرج ابن الزبير من بيته في الليلة الخمسين ليلقي على ابنيه تعاليم معركة الغد.
(حمزة!. . حمزة!. . حبيب!. . حبيب!. .)
ولكن أحدا لم يجب. وبدأت الحقيقة تتكشف لناظره الحزين قليلا قليلا، فإذا هي أبشع مما كان يقدر. حمزة وحبيب ابناه تركاه في هذا الضيق! والى أين؟ إلى عدوه، إلى من حاصره، وأذاقه هو وأعوانه كل كرب وضيق. وتلاشت صورة القلة من أل أعوان أمام هذه الخيبة. أي ألم؟ أي يأس؟ أي حسرة؟ لم يعد شيء يرجى.
بينما اليأس يحرق قلب الشيخ حرقا إذا بعروة الزبير يناديه. ماذا يريد منه عروة؟ عروة يناصر عبد الملك وهو في أمان من هذا الحصار وهذا الجند. ماذا يبغي عروة منه في ساعة اليأس هذه. عروة رسول أمل جديد جاء ليعرض عليه الأمان بشروط مرضية. هم يعطونه كل ماله: املاكه، سلامته، حريته التامة، كل شيء إلا الخلافة. وفي ساعة اليأس يرى اليائس بصيص النور ضياء ساطعا وهاجا، ولكن السن أملت عليه التدبر فليترو قليلا وليستشر. ولكن من يستشر؟
في ركن من أركان بيت عبد الله بن الزبير قبعت عجوز في المائة من سنها عجوز لها من تجارب الحياة ذخر ثمين، ولها من الصحة ورجاحة العقل رغم هرمها ما شهرت به، ولكن لها فوق هذا كله منزلة في نفس عبد الله لم يبلغها أحد. هي أمه هي أسماء بنت أبي بكر الصديق. فليستشرها هي.
واقترب الابن من أمه الوالهة التي جثم الحزن على قلبها طويلا. لقد فجعت حديثا في ابنها مصعب بعد أن ملأ ذكره الآفاق، بعد أن استولى على قطر من أهم الأقطار العربية وهو