تبرحُ تَنْزُو النوازي بهم في الخلاف والباطل، وهم كلما تَدَافَعوا بينهم قضيةً من النزاع فضربوا خَصْماً بخصم وردوا كَيْداً بكيد، جاء حكمُ الموت تكذيباً قاطعاً لكل من يقول لشيء هذا لي
أما والله إنه ليس أعجبُ في السخرية بهذه الدنيا من أن يُعطَى الناسُ ما يملكونه فيها لإثبات أن أحداً منهم لا يملك منها شيئاً، إذ يأتي الآتي إليها لحماً وعظماً ولا يرجع عنها الراجعُ إلا لحماً وعظماً، وبينهما سفاهةُ العظم واللحم حتى على السكين القاطعة. . . .
تأتي الأيامُ وهي في الحقيقة تَفِرّ فِرارَها؛ فمن جاء من عمره عشرون سنةَ فإنما مضت هذه العشرون من عمره. ولقد كان ينبغي أن تُصَحح أعمال الحياة في الناس على هذا الأصل البين، لولا الطباعُ المدخولةُ والنفوسُ الغافلة والعقولُ الضعيفةُ والشهواتُ العارمة؛ فأنه ما دام العمرُ مُقْبِلاً مًدْبِراً في اعتبار واحد، فليس للإنسان أن يتناولَ من الدنيا إلا ما يُرضيه محسوباً له ومحسوباً عليه في وقتٍ معاً. وتكونُ الحياةُ في حقيقتها ليست شيئاً إلا أن يكون الضميرُ الإنساني هو الحي في الحي
ما هي هذه القبور؟ لقد رجعتْ عند اكثر الناس مع المَوْتَى أبنيةً ميتة؛ فما قطُّ رأوها موجودةً إلا لينسوا أنها موجودة. ولولا ذلك من أمرهم لكان للقبر معناه الحيُّ المتغلغلُ في الحياة إلى بعيد؛ فما القبرُ إلا بناءٌ قائمٌ لفكرة النهاية والانقطاع؛ وهو في الطرف الآخر رَدٌّ على البيت الذي هو بناءٌ قائم لفكرة البدء والاستمرار؛ وبين الطرفين المَعبدُ وهو بناءٌ لفكرة الضمير الذي يحيا في البيت وفي القبر، فهو على الحياة والموت كالقاضي بين خصمين يصلح بينهما صُلحاً أو يقضي
القبرُ كلمةُ الصدق مبنيةً متجسمةً، فكل ما حولها يَتَكَذبُ ويتأول، وليس فيها هي إلا معناها لا يدخله كذبٌ ولا يعتريه تأويل. وإذا ماتت في الأحياء كلمةُ الموت من غرور أو باطلٍ أو غفلةٍ أو أثرة، بقي القبرُ مذكراً بالكلمة شارحاً لها بأظهر معانيها داعياً إلى الاعتبار بمدلولها، مبنياً بما ينطوي عليه أن الأمر كله للنهاية
القبر كلمةُ الأرض لمن ينخدعُ فيرى العمر الماضي كأنه غيرُ ماضٍ، فيعملُ في إفراغ حياته من الحياة بما يملؤها من رذائله وخسائسه، فلا يزال دائباً في معاني الأرض واستجماعها والاستمتاع بها، يتلو في ذلك تِلْوَ الحيوانِ ويقتاسُ به فشريعته جَوْفُه