وانحطاطها، وظهر الأدب الفصيح في الإنجليزية بارتقاء اللغة العامية وارتفاعها
تختلف الأمتان في هذا، وتختلفان أيضاً في علاقة الأدبين الفصيح والعامي في الأزمنة التالية لانفصالهما: ففي العربية كانت الهوة بينهما سحيقة والاتصال يكاد يكون معدوما، لشدة ترفع الأدب الفصيح عن صاحبه، بل تجاهله لوجوده؛ أما في الإنجليزية فكانت المسافة بينهما اقرب، والاتصال أوثق؛ وظل للأدب العامي دائماً للمثقفين اعتبار، ورحب به الأدب الفصيح مرارا وخلطه بنفسه، واقتبس أساليبه وصوره، واصطنع مواضيعه ونغماته، فأفاد بذلك فائدة كبرى
فالأدبان الفصيح والعامي وإن اختلفا تهذب لغة واستقامة تفكير وعمق نظرة وتنوع أشكال، يستقيان من معين واحد، هو النفس الإنسانية، بميولها وأحلامها وآمالها. وإذا امتاز أولهما بصفات هي وليدة الحضارة العالية والمجتمع الراقي والعلم المنظم، فان الثاني يمتاز بصفات الصدق والبساطة والقرب من الطبيعة التي هي مرجع كل فن؛ والأدب الفصيح عرضة من آن إلى آن لغلبه اللفظ فيه على المعنى ورجاحة الزخرف على الجوهر، وظهور التأنق والتحذلق على الشعور الصحيح والطبع المرسل، فهو بحاجة دائما إلى العودة إلى الطبيعة، وخير سبيل له إليها الأدب العامي، إذا نقاه من أو شابه واستخلص أجود عناصره
ظل للأدب العامي في إنجلترا دائما اعتبار، وظل كبار الأدباء مهما سمت ثقافتهم واتسعت نظرتهم إلى الحياة على علم به: فشكسبير وسبنسر وملتون طالما استقوا من معينه قصصا سائغا ضمنوه آثارهم، والتقطوا من كنوزه ألفاظا معبرة ألحقوها باللغة الشعرية الراقية فصارت من بنيتها؛ وأتيح للاغاني الشعبية من حين إلى حين أفراد من خاصة المثقفين عنوا بجمع ما وصل إلى عهودهم منها، فكانت تلك المجموعات نصب أعين الشعراء، يتخذون منها مواضيع لأشعارهم أو يحاكونها في الأسلوب والنظم
وكان لتلك الأغاني فضل عظيم في بعث النهضة الرومانسية في أوائل القرن التاسع عشر، بعد أن اختنق الشعر في جو المدينة وأثقلته قيود الألفاظ والتقاليد؛ فقد انصرف جمهور المتأدبين عن ذلك الضرب المتكلف من النظم إلى مجموعات الأشعار الشعبية التي توفر على جمعها ونشرها إذ ذاك نفر من الأدباء، وضمنوها ما وصل إليهم من مقطوعات منذ