للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

قاده إلى الاعتقاد بأن العدم وحده هو الذي ينقذ الإنسانية من آلامها التي تتذوقها بين الموت والحياة. وتشاؤم نيتشه كان موقظا لنفسه وحافزا قويا له لعبادة الحياة لأنها الحياة مهما كانت ألوانها ومهما طغت آلامها.

لست أعرف في الأدب العربي أبلغ تشاؤما من اثنين: المعري وابن الرومي وثالثهما المتنبي. . . أما الأولان فقد سلكا في تشاؤمهما مسلكا عدمياً يدعو إلى احتقار الحياة، والمعري هو القائل بأن الولادة جناية، وهو الي غلبت عليه فكرة صوفية غير مؤمنة؛ وابن الرومي هو الذي جعل من حياة الإنسان مأساة يبدأ أولها بعويل الطفل حين يولد وتنتهي بمثله حين يموت. أما المتنبي فقد كان جهازه العصبي عنيفا، وكان تشاؤمه مضطربا متوثبا لم يدفعه إلا إلى مقاومة الحياة؛ لا يصدفه عنها صادف لأنه مؤمن بها ومستهام بها ولو أنها عجوز دردبيس! وقد كان تشاؤمه، اجتماعيا - وهو ما اصطلح أدباؤنا على تسميته بالحكمة المتنبية - وتشاؤمه الاجتماعي كان وليد حظه في هذا الوجود الذي جعل من حياته المبهمة والمعلومة مرحلة آلام وجهاد. تشاؤمه في نظراته الاجتماعية ولا يرى منها إلا ما يتصل بنفسه؛ ولقد يطغى هذا التشاؤم على بقية نظراته في مسائل الحياة والكون لأنه كان مريضا بحب معالي الأمور، مريضا بعظمة نفسه، كأنما يرى - بعد أن حرمه المجتمع حقه - يرى واجبه أن يضع نفسه - وهو حر بها - موضعا عاليا، وذا أقل ما يفعل؟ ولا أستطيع إلا أن أتصور تلك الحدة في جهازه العصبي الذي كان عنيفا في احتداده متوترا في هدوئه. وهنا كان سر اختلاف التشاؤم بين المعري والمتنبي. فالمعري كان أوسع أفقا في دائرته ومغازيه، وكان نظره أعم في مسائل الكون والحياة لأنه وف درسه وشعره عليها، وكان له في زهده وعماه ما يصرفه عن الاشتغال بدنياه. فمال به تشاؤمه إلى الزهد والعدمية كما مال بشوبنهاور. مع أن المعري أحد محبي المتنبي والمتأثرين به، أخذ منه تشاؤمه وأغفل ما كان عنده من أسباب المقاومة. وإذا فكر الإنسان قليلا في حاله بدا له أن الكآبة تنتظره، وأن كل فكرة هنا تقوده إلى الحزن. وما حياة الإنسان على الأرض إلا مأساة تنتهي دائما بالدموع والشقاء والموت. يعلم المفكرون هذا المغزى ولكن بعضهم لا يقول به. بل إن منهم من يدعو إلى الإيمان القوي بالحياة. ولكن هل كان الناس كلهم يملكون هذه القوة الروحية؟ وهما أمران مختلفان؛ أن يتغلب المرء على تشاؤمه وهمومه في سبيل إتمام دورة الحياة، أو

<<  <  ج:
ص:  >  >>