للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أن يجتنب الحياة تطغى عليه أنانية حاقدة. وهل كان هذا الإيمان القوي بالحياة إلا نتيجة تشاؤم عميق ونفور عميق من الحياة وولع عنيف بها يولده هذا النفور؟

في فلسفة المعري تشاؤم ليس بإيجابي صرف، ولكنه تشاؤم سلبي. فيها انطلاق من الذاتية وتعلق بالذاتية: لا تطلق (أم دفر) لمجرد نتنها ولكنها تدانت من (أم دفر) فلم تبؤ إلا بالخيبة. فلسفة وجدت ذاتها ضائعة بين الذوات؛ ومثل ذات المعري لم تأت لتكون ضائعة، فشنت الغارة على الدنيا وعلى أهلها وانتقمت لذاتها منها ومنهم، وبهذا استغنت عن ذاتها في ناحية وتمسكت بذاتها من ناحية ثانية. ولهذه الذات خطرها لأنها أنانية حاقدة نصبت نفسها فوق غيرها وطفقت تعطى أحكامها القاسية على الناس وقيمهم وعقائدهم، وتسخر منهم وتفشي معايبهم وتكشف عن مخازيهم، وهي في كل هذا فرحة مختالة، ترى في كل خطوة تخطوها ظفرا لها لامعا. ولهذه العلة وحدها كان يأنس بالمعري كل متشائم لأنه يحسن له الانتقام من الحياة وأبناء الحياة ولكنه ظفر موهوم لا يكلف صاحبه إلا النقمة. أما من لا يزالون يتلمسون في أنفسهم بقية من الحياة النشيطة فهم لا يرضون عن هذا التشاؤم. فالمتنبي متشائم يهاجم فساد الناس والمجتمع ولكنه لا يهرب من الحياة ولا ييأس منها يأسا قاتما، في يأسه انطلاق وفي نغمته رضا، وحياته وأدبه شيئاًن متصلان لا يمكن أن ينفصلا لأنهم يعبران أصدق التعبير عما يريد أن يقوله عن الحياة، ولأن حقائقه العامة كانت مستخلصة من حقائق الحياة الخاصة.

- ٢ -

ادخل في كل باب ولجه المتنبي: في اجتماعياته وفي إحساسه بذاته وفي نظراته إلى الحياة والموت وما وراء الموت تجد في ثنايا هذه النظرات تشاؤما عميقا ينفذ إليه النظر الثاقب، وتجد أن هذه المقاومة التي تمثل الرجولة الكبيرة قد كلفت صاحبها كثيرا، وجعلت حياته مسرحا للاضطراب والشقاء. أما المجتمع عنده، فهو غاب تتصارع فيه سباع الأنس، ينال واحدها الشيء غلابا واغتصابا. وقد تنقلب هذه السباع غربانا ورخما، فويل للجريح الذي يشكو إليها، وويل للذي يأمن لهم، ويثق بهم، ويغره منهم الثغر المبتسم. ولا عجب إذا تناحرت السباع فالحياء لا يسد لها جوعا والسلام لا يحفظ لها بقاء. والشاعر - خلال ذلك - يريد أن يكون أسدا - ولكن حييا - (وهل ينفع الأسد الحياء من الطوى؟) يريد أن

<<  <  ج:
ص:  >  >>