يكسب ما لا يصمه وما لا يشركه فيه وغد. وإذا لم ينل ذلك فالذنب ذنب الزمان الهرم!
كيف يريد أن يقابل مثل هذا المجتمع؟ أيشكو ويتعتب، وهو في كل قصيدة يشكو ويتعتب. أيسكن ويرضى؟
وللواجد المكروب من زفراته ... سكون عزاء أو سكون لغوب
أيرضى عن الحياة وما وصفت إلا لجاهل متعاقل وما شقي فيها إلا عاقل؟ أيطمئن إلى سرورها وقد رأى انتقاله؟ أيسعى في مناكبها ومسعاه منها في شدوق الأراقم؟ أيتعلل بشيء منها ولا أهل يتعلل بهم ولا وطن ولا نديم ولا كأس ولا سكن؟
اتخذ الشاعر مواقف متعددة إزاء المجتمع، فهو طوراً يسعى إلى مدارة أصحابه، وقلما يفعل فيصادق العدو ومن نكد الدنيا مصادقته، وهو طورا - وقد مل من المبالاة بالأرزاء - يسعى إلى أن تهون عليه الأرزاء، وأن يخدر إحساسه بها، لأنه ما انتفع بالمبالاة. وطورا ينظر إلى الأيام نظرة عميقة فلا ينكر عليها تقبلها، ولا يمدحها ولا يذمها، لأنها تبطن لا عن جهل، وتكشف لاعن حلم، ولأنها لا تشبع إلا إذا جاع، ولا تروي إلا إذا ظمئ! وفي هذه النظرة يدنو من مذهب القائلين باللا شعور في الطبيعة. وقد يضطرب هذا الرأي في نفسه فيتصور أن الناس هم الجانون لا الأيام وحدها، فيزيد نقمته على المجتمع، ويصبح لا يميل إلى مجازاة الابتسام بالابتسام، ولا الشك في كل إنسان، لأنه واحد من الأنام، وإنما يريد أن ينتقم من الناس وأن يطأ قلوبهم وآمالهم كما يطأون قلبه وآماله.
ومن عرف الأيام معرفتي بها ... وبالناس روى رمحه غير راحم
وكيف يكون الذنب كله ذنب الزمان؟ وربما تحسن الصنيع لياليه وإن كدرته أحيانا. ولكن هو الإنسان الذي يركب في قناة الزمان سنانا. وقد يسأم الشاعر من هذه المقاومة العنيفة فيعود إلى عدم الاكتراث بدهره، ويرى أن هذا المراد الذي تتفانى عليه نفوس البشر أحقر من أن نتعادى فيه ونتفانى. ولكنه ينظر إلى نفسه فيرى أن هذا المراد الكبير، المراد الذي جل أن يسمى - هو سبب شقائه. فلو مال عنه لوجد في الحياة رغدا كثيرا وراحة كبيرة، ولكن ما هي قيمة الحياة بدون مراد كبير؟ والمتنبي ليس ممن يرضون بميسور عيشهم! فيتعلل وهو أبلغ تعليل يراه بأن لا عذاب في العذاب، وأن كل بعيد الهم فيها معذب.