هذه مراحل كان يأوي إليها الشاعر في نضاله، أقربها تجثم فوقه غيوم سوداء من التشاؤم، ولقد زاد في تشاؤمه إحساسه بعظمته التي لا يقنعها مظهر من المظاهر، وهو الذي كان في محفل من الناس واليوم أصبح في محفل من قرود! ولكن المتنبي إزاء هذه النوازع هل راح يبغض الحياة؟ ظل إحساس المتنبي برغم هذه العوارض التي ألمت به إحساسا قويا فنيا، يحب الحياة ولا ينكر ابتغاء كل نفس للحياة وحرصها عليها وهيامها بها. ومن الذي لم يعشق الدنيا والحياة؟ ولكنه لا ينسى أنها لا تنيل أربا ولا تعطى غاية ولا تسمح بوصال. وقد كان هذا وحده كافيا في خلق النفور منها ولكن:
من لذيذ الحياة أنفس في النف ... س وأشهى من أن يمل وأحلى
وإذا الشيخ قال أفٍ فما ملّ ... حياة وإنما الضعف ملا
وإذا كان الشيخ وحده يمل الحياة بسب ضعفه فليبادر وهو فتى - إلى الحياة - يستخلص منها ملذاتها قبل أن تستخلص منه نفسه، ويجنح إلى اللهو فأوقات اللهو تمر سراعاً كأنها كما قال قبل يزودها حبيب راحل! والزمان لا لذيذ خالص فيه ولا سرور كامل. . . وليت شاعرنا يقنع بهذا التعليل، فقد تطغى عليه في بعض مواطنه موجة من التشاؤم لا نجد لها مثيلا إلا عند المعري. . . ينظر إلى الدنيا وقد أعياه أمرها فيراها خائنة:
. . . أخون من مومس ... وأخدع من كفة الحابل
تفانى الرجال على حبها ... وما يحصلون على طائل
يراها خائنة معشوقة
ومن لم يعشق الدنيا قليل ... ولكن لا سبيل إلى الوصال
وقد نظر المتنبي فيما نظر إلى الموت وما بعد الموت، فكان نظره قصيرا فيما وراء الطبيعة وخياله محدودا؛ ليس له رأي ذاتي فيه وإنما يسمع ما قيل ويشك فيما قيل؟ ولعله سما في قصيدته التي رثى بها عمة عضد الدولة سموا يذكرنا بما سما إليه المعري في الرثاء. فقد مزج نظرته بشيء من الفلسفة الوثنية التي تعيد الأرواح إلى جوها والأجساد إلى تربها وترى كل شيء معلقا بالزمان
نحن بنو الموتى، فما بالنا ... نعاف ما لابد من شربه