فكم في هذه الصورة الأخيرة من ورعة وتشاؤم! وقد تكون روعتها في انطلاقها وإطلاقها الخيال للسامع، فيصور ويمثل منتهى هذا الحسن الذي يسببه، وقد وددت لو أنقل صورة لمثل هذا المنتهى للشاعر الفرنسي (بودلير) في قصيدته (جيفة) وهل يريد المتنبي من هذا المنتهى إلا هذه الجيفة؟ وليته رسم لنا خطوطها وأتم صورتها، ولكن الموت قد يعكر على المتنبي هناءه، ولكنه لا يمنعه منه وقد يستغل اسمه وهوله - أمام محبوبته، وجيفته - فيطلب إليها أن تزوده من حسن وجهها قبل أن يحول، وأن تصله في هذه الدنيا لأن المقام فيها قليل، أما رعشة الموت فهو يحسها ويلمسها ويراها ويدرك كما أدرك المعري بنظره الشامل أننا:
يدفن بعضنا بعضا وتمشي ... أواخرنا على هام الأولي
وهل في هذه النظرات العميقة إلا تشاؤم عميق؟ ولكنه لم يسلم صاحبه إلى الاستسلام؛ تشاؤم يرى كل ما يشق منظره فيحسب يقظات العين حلما! ويعفو عن الزمن لأنه لا يعقل أن يبلغه ما ليس يبلغه الزمن من نفسه. وهكذا خلق هذا التشاؤم فيه قوة يعود تعليلها إلى أمور كثيرة، منها إلى مزاجه ومنها إلى بيئته؛ وحقا إذا كان مزاجه العصبي قد أضربه في موطن فقد عاد عليه بفوائد كثيرة في مواطن كثيرة. منها هذه المقاومة العنيفة والمجابهة التي يطفح بها شعره، وقد كان أولى بهذا التشاؤم أن يقوده إلى ما قاد المعري إليه برغم أن المعري لم يبل في الحياة والأصحاب بمثل ما ابتلى به المتنبي.
هذا الجانب من جوانب المتنبي أعجب به وأعتز به لأنه علامة من علامات الرجولة الممسوخة في هذا الجيل، تصون عزتها ولا تنسى أن تبرز بذاتها إزاء كل ذات مهما تناهت عظمتها، وهل تستطيع أن تجد قصيدة لم يطبعها المتنبي بذاته؟ بل هل كان المتنبي