للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

قادرا على التجرد من ذاته؟ ألا نراه يتغنى في كل مقطوعة بذاته؟ ويحن إلى غايته ويطأ هام الملوك والخلائق وينقض على الزمان يراغمه وعلى الحظ يصاوله، ولعل المتنبي أول شاعر قام يحاول إخضاع الحظ والناس لموازين العقل والذكاء.

ولعل أصحابنا النقاد يرون مغامز في المتنبي، فيأخذون عليه رياءه ومبالغته وتقلبه، ويتخذون موقفه مع كافور حجة على غدره وتقلبه. ومثل هذا النقد صدق يشهد به المتنبي وأشعاره، ولكي أعتقد أن هذا الرياء الذي تنقم عليه الأخلاق لم يكن إلا رياء فنيا - والرياء الفني يغمر كل شعرنا وأدبنا ولا يزال. . . ولو كان من نوع ذلك الرياء اللين لكان لصاحبه شأن مع رجال الأحكام. وإن شخصيته المتجردة من شعره كانت شخصية عنيفة قاسية لا تهاود في عزتها. الأمر الذي يدل على أن رياءه هو الرياء الذي تواضع عليه شعراء ذلك العصر وأدباؤه وتقبلوه ولم يستقبحوه.

حياة زاهرة بالأهوال والآمال كلما صدع لها الدهر أملا زادت حزما وعزما، غير مستعظمة إلا نفسها ولا قابلة إلا لخالقها حكما؛ حياة تود أن تنفصل عن الناس لتتصل بالناس، وذات لم يترك لها الدهر مجالا للنظر في غير ذاتها، في شعرها أثر عصرها وبيئتها، وفي شعرها أثر العصور. ولعمري إن هذا لهو الأدب الحي الذي تتوق إليه الآداب العالمية اليوم، أدب ترتسم فيه الرسالة القومية والرسالة الإنسانية. . .

ما أفقر أدبنا الحاضر على غناه إلى متنبي جديد يفيض قوة وعزيمة على رغم تشاؤمه! ولعله إذا عاد يغير شيئاً في رسالته ويجعلها رسالة قوية يفرضها فرضا بقوة البيان شاعر ذو كبرياء وسلطان، على شعب مريض أصبح السائر لا يسير بينه إلا بألف ترجمان.

(دير الزور)

خليل هنداوي

<<  <  ج:
ص:  >  >>