بالاختفاء من خريطة أوربا. ولم يكن ذلك لأن هذه الدول الجديدة أكثر حقاً في الحياة من الدول المختفية، أو لأن قيامها يكون أكثر تحقيقاً للعدالة الدولية وسير التاريخ، ولكن لأن قيامها يحقق شهوات عسكرية وسياسة للدول الظافرة، ولأن اختفاء الأمم القديمة يقضي على وحدات سياسية وعسكرية ضخمة كانت تخشاها الدول الظافرة. وقد عرف التاريخ الحديث كثيراً من هذه المعاهدات والمؤتمرات الدولية الكبرى التي كانت تغير معالم أوربا، وتفتتح في تاريخها عصراً جديداً، فمعاهدة وستفاليا التي اختتمت بها حرب الثلاثين في سنة ١٦٤٨، ومؤتمر فينا الذي عقد في سنة ١٨١٤ لتسوية المشاكل والتغييرات التي أحدثتها الحروب النابوليونية، ومؤتمر برلين الذي عقد على أثر الحرب التركية الروسية (سنة ١٨٧٨)، والذي أسفر عن تمزيق الدولة العثمانية القديمة، وسلخ معظم أملاكها الأوربية، كلها أمثلة من هذه المؤتمرات الشهيرة الحاسمة ذات الأثر البعيد في مصاير التاريخ والأمم؛ ولكن مؤتمر فرساي كان أعظمها جميعاً وأبعدها أثراً
وقد ظن العالم بعد أن شهد مصائب الحرب وويلاتها المروعة مدى أربعة أعوام، إنه يستطيع أن يعتصم من خطر الحرب بدروسها وعبرها الأليمة، وإن ما لقيته من فظائعها وأهوالها في هذه الفترة السوداء من تاريخ الإنسانية، كفيل بأن يزهدها في الحرب وخوضها أمداً طويلاً؛ وقامت عصبة الأمم لتكون أداة صلح وتفاهم بين الدول المتنازعة، ونظم مؤتمر نزع السلاح ليعمل على تحديد التسليح إلى الحد الذي يتفق مع السلامة القومية، وعقد ميثاق لوكارنو ليكون دعامة في صرح التفاهم بين أعداء الأمس، ولقرب ما بين فرنسا وألمانيا، وعقدت بين مختلف الدول مواثيق بعدم الاعتداء، وكللت دعوة السلام بعقد ميثاق تحريم الحرب، وغمرت صيحة السلام والتفاهم جو السياسة العالمية مدى حين؛ ولكن هذه المظاهر الخلابة لم تك إلا ستاراً خادعاً تضطرم من ورائه ضرام الأحقاد والمنافسات القومية الخالدة؛ فقد كانت الأمم الظافرة والمغلوبة معاً تجد في مضاعفة تسليحها وأهبتها العسكرية، وكانت المعاهدات والمحالفات السرية تعقد كما كانت تعقد من قبل، وتؤلف من الدول جماعات وكتل خصيمة مثلما كانت بالأمس؛ وكانت عصبة الأمم أثناء ذلك تنحدر شيئاً فشيئاً إلى أداة لينة في يد الدول الكبرى توجهها لتحقيق مآربها السياسية أو الاستعمارية؛ وهكذا وقف العالم فجأة على الحقيقة المرة، وهي أن هذه الخمسة عشر عاماً