خاضعة لحكمهم ثم حررت تباعاً، وبالنزعة الروسية إلى الاستيلاء على استنبول
فمن المأثور عند الروس ما يجعل لهم هذه النزعة المزمنة إلى الاستيلاء على استنبول، وأقدم حججهم في ذلك أن بوزنطة آلت إليهم بالإرث، وأن روسيا الأرثوذكسية هي حامية الأرثوذكس: لأن إفان الثالث غراندوق روسيا تزوج عام ١٤٧٢ الأميرة سوفي بليلوج ابنة أخي قسطنطين آخر أباطرة قسطنطينية العاصمة الأرثوذكسية؛ ولما تزوج إفان هذه الأميرة أدعى للساعة إنه وارث هؤلاء الأباطرة، واتخذ النسر ذا الرأسين شعارا له، وأعلن إنه سينتقم من الترك للأرثوذكسية، وبهذه الصورة بدت مسألة الشرق المشهورة في صدر التاريخ الحديث. والحقيقة أن استنبول في موقعها الجميل وصلة كبيرة الشأن بين أوربة وآسية، وإن من أكبر مصالح روسيا الوصول إلى البحر المتوسط، لأن منافذها الشمالية إلى البحار تجمع ثمانية أشهر في العام. ولكن الدول الغربية، وخصوصا إنجلترا حالت دون وصول الروس إلى استنبول والبحر المتوسط. والسبب هو أن زحف دولة كروسيا في البلقان وامتلاكها مفتاح هذا البحر يردانها دولة بحرية ويزيدان شوكتها وسيادتها، وقد تتوغل بعد ذلك في الأنضول ووادي الفرات، وتصل إلى الخليج الفارسي، وفي هذا كله خطر على الهند وشرقي البحر المتوسط، وطرق الإمبراطورية البريطانية
وقد طرحت مسألة الشرق مراراً من أوائل القرن السابق، وخفف من خطرها تقرير الدول مبدأ حفظ كيان الإمبراطورية العثمانية وقيام دويلات البلقان حواجز بين النمسا وروسيا وتركيا. لكن المسألة لم يزل خطرها، بل ظل كامناً يبدو بين حين وحين
ولما هزمت الدولة العثمانية في الحرب الكبيرة الماضية، واحتلت إنجلترا مع حلفائها استنبول انعكس وضع المسألة: إذ لم يبق الغرض إخراج الترك من أوربة، بل عاد إبقاؤهم فيها لصيانة حرية المضايق تحت حكمهم - مع بعض الضمان منهم - ومنعا لدولة عظيمة أن تتسلط، مباشرة أو بوساطة، على العالم بأسره
من ذلك الماضي تسلسلت مسألتا تراقية وأرمينية، ومسائل سورية وغيرها من بلاد الشرقين الأدنى والأوسط
وحقيق بالذكر ههنا أن مسألة الشرق جاوزت حدود أوضاعها المتقدم بيانها، إذ (كانت منذ انتهاء القرن الثامن عشر كأنها مسألة اقتسام الدول الأوربية لآسية واستعمار هذه القارة؛