وصحيح أن الحياة جهاد - جهاد مع الطبيعة ومع الإنسان - ولكنا لسنا من الحيوان، فنضالنا لا ينبغي أن يكون بالأنياب والمخالب، بل بالعقول. ونضال العقول متعة، وليس يعي به أو يستثقله أو يضجر منه إلا من لا يصلح لغير حمل الأثقال كالدواب. وليس أمر الدنيا إلى هؤلاء المساكين المستضعفين الذين يساقون ويسخرون، بل إلى أصحاب العقول. حتى حين تقوم الثورات لا تكون الثورة في حقيقة الأمر من الجمهور الأكبر والسواد الأعظم الذي يسفك الدماء ويعبث بالخراب والدماء، بل ممن يدفعونهم إلى ذلك ويغرونهم به ويحضونهم عليه صراحة وتلميحاً، وعفواً أو عن عمد، أي من أصحاب العقول. ولست تستطيع أن تعطل عقول الناس أو تعقل ألسنتهم. وخير وأرشد - لك وللناس - أن لا تفعل حتى إذا استطعت. وتصور دنيا ليس فيها من يفكر بعقله وينظر بعينه غير واحد ليس إلا! أي مزية يستفيدها هذا الفرد؟ وأي متعة أو نعيم له في حياته مع أشباه البهائم؟
إنما المتعة والنعيم في هذا النضال الذي تتصفح فيه عقول منافسيك وتضيفها إلى عقلك، وأنت بذلك تكسب أبداً ولا تخسر، وتضم كل يوم ثروة ذهنية إلى ما أوتيت من ذلك، وتمنع عقلك أن يصدأ، لأنك لا تنفك بفضل النضال الذي لا مهرب لك منه، تجلوه وتشحذه وترهفه
ولكن المرء لا يستطيع أن يناضل بعقله الفطري. وأعني بالفطري الذي لا زاد له من العلم، ولا مدد من المعرفة. وشبيه بذلك أن تقاوم مقذوفات المدافع بالحجارة. فلا معدى لنا عن تعهد ملكاتنا وتزويدها بالأداة التي تجعلها أمضى وأكثر غناءً
وعلمتني الحياة الابتسام! وأنه لعجيب أن يحتاج المرء أن يتعلمه! ألم يقل بعضهم في تعريف الإنسان أنه حيوان يبتسم؟ وأدعى إلى العجب من ذلك أن تكون المحن والشدائد هي التي علمتنيه وعودتنيه! أي والله! فقد كان صدري يضيق ومرارتي تكاد تنشق، من الغيظ، وكنت أجزع إذا حاق بي ما أنكره، وأقنط من قدرتي على اجتياز المحنة، حتى تلفت أعصابي واسودت الدنيا في عيني، بل كاد نور عيني يخبو وينطفئ لفرط ما كنت أعانيه من الاضطراب والألم والكمد، ثم لطف بي الله فتمردت على نفسي، وصرت إذا عراني ما كان يعروني من الجزع أو الخوف أو الاضطراب أقول لنفسي: قد جربت مثل هذا من