للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

قبل، وعرفت بالتجربة أنه كله يمضي ولا يخلف أثراً ولا يورثني إلا الأسف على ما أنهكت من أعصابي في احتماله، وقد لدغت آلاف المرات. فلا يجوز أن الدغ بعد ذلك أبداً، وخليق بي أن أتلقى كل ما يجيء - لا بالصبر والتشدد، فقد كان ذلك ما أفعل ولم يكن يكفي - بل بالسخرية والتهكم - سخرية العارف وتهكم المدرك للقيم الحقيقية للأشياء - وبالابتسام الذي يهون كل صعب ويحيل كل جسيم ضئيلا.

وإذا بالابتسام له فعل السحر بل أقوى. تفتح حنكك ربع قيراط، وتكلف عينك أن تومض قليلا فتتغير الدنيا كلها! تجف الدموع إذا كنت تبكي، وينضب معينها، وينشرح صدرك إذا كان منقبضاً، وتشعر بخفة في بدنك بعد أن كان على كاهلك وقر ترزح تحته، ويزايلك ما كنت تحاذر كأنما كان ضلا ارتمى عليه لورفنسخه، ويتجدد الأمل الذي كان قد استحال إلى يأس، وتنشط للعمل والسعي والجهاد وأنت مفعم بالرجاء، بعد أن كانت رجلاك كأنما شدتا إلى قنطارين من الحديد، ولا تعود تبالي أنك في ضيق، أو أنك عاطل، أو مريض، أو أنك فقدت عزيزاً، أو أن تجارتك بارت وخسرت ألف ألف جنيه! كل ذلك الكرب الممض يصبح غير ذي قيمة لا لشيء سوى أنك استطعت أن تتبسم! ولست أتمنى للقراء إلا الخير محضاً، ولكنه ما من حياة تخلو من دواعي الانقباض أو الألم أو الحزن، فليجربوا الابتسام إذا مر بهم - لا قدر الله - شئ من ذلك، وليتأملوا فعل سحره، فقد وجدته في كل حال وصفة نافعة.

وليس الابتسام سهلا في مثل هذه الحالات، فانه مغالبة للنفس، ومغالبتها تتطلب جهداً عظيماً، ولكن التمرة تستحق العناء، والمثوبة على قدر المشقة. وأول ما يكون على المرء أن يتغلب عليه، هو الاستحياء من أن يبتسم في موقف حزن أو كرب شديد مخافة أن يقول الناس أنه يسرف في التكلف. وما من شك في أنه لا يتأتى في أول الأمر إلا بتكلف شديد، ولكنه لا يلبث بعد أن ينجح في تكلفه أن يصبح طبيعياً، لأن مجرد الابتسام يفجر ينابيع البشر في النفس فتفيض

ولان يتكلف المرء الابتسام خير - وأسهل أيضاً - من أن يحتمل ما هو فيه من الآلام، وما يساوره من المخاوف والوساوس والأوهام

ومتى ابتسم المرء في الشدائد والمحن، فإن الميزان يعتدل من تلقاء نفسه، فيفطن المرء إلى

<<  <  ج:
ص:  >  >>