ثم وشين ثقافة عصورهن بألوان شتى من أناقة المعرض وجمال الأداء وحسن المبادهة. وكان من حسن حظ الرسالة أن وقعت بقلب الكاتبة العظيمة، فكانت كلما صدرت في يومها تحييني مي بالتليفون تحية الروح الملهم من عالم الغيب، والأمل المشجع من وراء الغد، فكان ذلك يبسط من انقباضي عن الناس، ويجرئني على اغباب الزيارة للأديبة الكريمة. وكان يصحبني إليها صديقها الأستاذ عنان فنجدها وحدها أو معها الأستاذ خليل ثابت، فنسمر عندها هزيعاً من الليل تناقلنا شجون الحديث بصوت جميل النغم، ومنطق رخيم الحواشي، وعقل سريع الإدراك، وظرف بارع المفاكهة، حتى أقبل الصيف وعقدت غمائمه على وجهي (الوادي) غشاء من الزفير والدخن، فلحظنا ذات مساء على الآنسة المتهللة بطبعها انقباضاً في المزاج واضطراباً في النفس، سببه على ما قالت خلاف طرأ بينها وبين محطة الإذاعة، فقد أرادت أن تذيع خطابها من غير أن تطلع عليه الإدارة؛ وأبت عليها عزتها أن تقبل تنبيه المذيع اللين إلى أن قانونها يحتم الاطلاع على ما يلقى قبل إذاعته. فانصرفت غاضبة على الرغم من اعتذار الإدارة على هذا التنبيه وقبولها أن تذيع مي من غير قيد ولا شرط. فهونا عليها الحادث وجلونا عن صدرها همه. ولكن الأمر بعد ذلك عظم في نفسها وأصبحت تظن أن الحكومة تضطهدها وتراقبها فقررت ألا تخرج من البيت، وشعرت أنها غير مقدورة ولا مشكورة فصدفت عن الكتابة، واقتصرت من الغذاء على شراب الليمون، ومنعت إذنها عن الناس فلم يدخل عليها إلا أربعة أو خمسة من أصدقائها الأدنين. ودخلنا عليها ذات ليلة فوجدناها كئيبة النفس كأنما انصرفت من جنازة حبيب. فسألناها ما بها، فقالت إنها الساعة مزقت وأحرقت ستة وثلاثين مخطوطاً من رواياتها ومقالاتها آخرها رواية (المصري الجديد) لأنها لم تجد رداً على ظلم الحكومة وعقوق الناس أبلغ من هذا الصنيع. فبدا على وجوهنا سهوم الأسى والجزع على هذه الثروة الأدبية تخسرها العربية من بلاغة مي. كل ذلك ومي محافظة على هدوء الطبع ورصانة العقل وألمعية الذهن وسلامة الحديث، فعزونا هذه الحال النفسية إلى حزنها على أمها، ووحدتها في بيتها، وعزلتها عن أهلها، فأشرنا عليها مع الطبيب أن تسافر إلى لبنان انتجاعاً للراحة وطلباً للنسيان وابتغاء للأنس، فكانت ترفض، حتى حملها بعض قرابتها على أن تسافر فسافرت، وفي مرجونا أن تعود مي إلى مصر رخية البال سعيدة النفس