للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الماضي ثم نسيته.

والنفس عند الهدوء خالدة لا يعتورها الفناء، لأنها هي كل ما في الإنسان من حقيقة كما أسلفنا، ولهذا فهم لا يعتبرون الموت أكثر من تغيير ثياب النفس ومآويها، إذ إنها هي لا تتعرض بالموت لأي شئ إلا انتقالها من مأوى إلى مأوى بما يسمونه التناسخ أو التقمص. وقد أفاضت الكتب الهندية دينية وفلسفية في هذه العقيدة أو النظرية إفاضة جعلتها كأنها وحي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وهاك شيئاً مما نقله لنا البيروني خاصاً بعقيدة خلود النفس وتقمصها:

قال (باسديو) لـ (أرجن) يحرضه على القتال وهما بين الصفين: (إن كنت بالقضاء السابق مؤمناً فأعلم أنهم ليسوا ولا نحن معاً بموتى ولا ذاهبين ذهاباً لا رجوع معه، فأن الأرواح غير مائتة ولا متغيرة، وإنما تتردد في الأبدان على تغاير الإنسان من الطفولة إلى الشباب والكهولة ثم الشيخوخة التي عقباها موت البدن ثم العود. وقال له: كيف يذكر الموت والقتل من عرف أن النفس أبدية الوجود لا عن ولادة ولا إلى تلف وعدم، بل هي ثابتة قائمة لا سيف يقطعها، ولا نار تحرقها، ولا ماء يغصها، ولا ريح تيبسها، لكنها تنتقل عن بدنها إذا عتق نحو آخر ليس كذلك كما يستدل البدن واللباس إذا خلق. فما غمك لنفس لا تبيد، ولو كانت بائدة فأحرى ألا تغتم لمفقود لا يوجد ولا يعود. فان كنت تلمح البدن دونها وتجزع لفساده فكل مولود ميت، وكل ميت عائد، وليس لك من كلا الأمرين شيء، إنما هما إلى الله الذي منه جميع الأمور وإليه تصير). ولما قال له (أرجن) في خلال كلامه: (كيف حاربت براهم في كذا وهو متقدم للعالم سابق البشر، وأنت الآن فيما بيننا منهم معلوم الميلاد والسن؟). أجابه قال: (أما قدم العهد فقد عمني وإياك معه، فكم مرة حيينا حقباً قد عرفت أوقاتها وخفيت عليك، وكلما رمت المجيء للإصلاح لبست بدناً، إذ لا وجه للكون مع الناس إلا بالتأنس). وحكى عن ملك أنسيت أسمه أنه رسم لقومه أن يحرقوا جثته بعد موته في موضع لم يدفن فيه ميت قط، وأنهم طلبوا موضعاً لذلك فأعياهم حتى وجدوا صخرة من ماء البحر ناتئة فظنوا أنهم ظفروا بالبغية. فقال لهم باسديو: إن هذا الملك قد أحرق على هذه الصخرة مرات كثيرة فافعلوا ما تريدون فانه إنما قصد إعلامكم وقد قضيت حاجاته)

وقال باسيديو: فمن يؤمل الخلاص ويجتهد في رفض الدنيا ثم لا يطاوعه قلبه على المبتغى

<<  <  ج:
ص:  >  >>