للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أم يخرجون منه وقد حبطت أعمالهم، وزاد خوفهم منه ما ورد في أهله من الوعيد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم شبه صاحبه بالمذبوح بغير سكين، وأنه جعل القضاة ثلاثة: قاضياً في الجنة وقاضيين في النار

نظر هؤلاء بعين الورع، ونظر غيرهم بمنظار الشريعة، فرأوه كما قال عمر بن الخطاب: فريضة محكمة، وسنة متبعة، وعبادة من أفضل العبادات، وطاعة من أجل الطاعات، فرغبوا فيه، وتقربوا إلى الله به، قال مسروق، الإمام التابعي الثقة: لأن أقضي يوماً بالحق أحب إلي من أن أرابط سنة في سبيل الله. واستدل على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: عدل ساعة خير من عبادة سنة. وحديث ابن مسعود: إنه لا حسد (يريد لا غبطة) إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا، فهو ينفقه في طاعة الله؛ ورجل آتاه الله علماً، فهو يعلمه ويقضي به. وقال مكحول فقيه الشام في عصره: لأن أكون قاضياً أحب إلي من أن أكون خازناً. (قال السرخسي): لأن الخازن يحفظ على المسلمين مالهم، والقاضي يحفظ عليهم دينهم. وفسر علي رضي الله عنه والعلماء من بعده حديث قاضيي النار أنهما: قاض علم علماً فقضى بخلافه، وقاض جاهل يقضي بغير علم. وفسروا حديث المذبوح بغير سكين بأنه القاضي الجائر، يدل على ذلك ما رووه من قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله مع القاضي ما لم يجر، يسدده للحق ما لم يرد غيره.

وقد فصل الحنفية فذكروا أن القضاء من فروض الكفاية، وأن طلبه تعتريه الأحكام الخمسة، فيكون واجباً إذا لم يكن في الأمة من يصلح له إلا واحد، فطلب القضاء واجب على ذلك الواحد. ويكون مستحباً إن كان فيها صالحون ولكنه أصلح منهم، ومباحاً إن كان صالحاً له ويصلح له غيره، ومكروهاً إن كان غيره أصلح منه. وطلب القضاء حرام على من يعلم من نفسه أنه عاجز عنه، وأن من طبعه الميل مع الهوى، ومجاراة الناس، واتباع المغريات

وليس كل طالب للقضاء يولاه، وما عمل من أعمال الدولة إلا لتوليه شروط، ولأهله صفات، باجتماعها تكون التولية، وبانتفائها يكون الرد، يعملون بها اليوم في بلادنا حيناً وتهمل أحياناً، خطأ أو عمداً، فتوسد الأعمال إلى غير أهلها، ويدخل فيها غير مستحقيها. أما القضاء عندنا، فباب الدخول إليه أضيق وشروطه أشد، ولولا ثغرة كانت، ربما ولج منها الضامر الهزيل الذي يمر من هذا الشق، فإذا صار من داخل ترعرع وسمن وصار

<<  <  ج:
ص:  >  >>