وهكذا أمضى القاضي شهادته ولم يبحث عنه ولم يطلب تزكيته خوفاً من لسانه الفضاح الذي استبان بعض شره في بيتين من الشعر. وقد ترى - من هذا - أن أبا دلامة كان جريئاً لا يخاف أحداً. والحق أن هناك فرقاً عظيماً بين جرأة اللسان وثبات الجنان، فقد كان هذا الظريف جباناً من الطراز الأول يكاد يخاف من ظله ولو خاف جميع الناس لسانه.
أهدى للمهدي فيل، فرآه أبو دلامة فولى هارباً وقال:
يا قوم إني رأيت الفيل بعدكم ... لا بارك الله لي في رؤية الفيل
أبصرت قصراً له عين بقلبها ... فكدت أرمي بسحلي في سراويلي
ورجل يخاف من رؤية الفيل - وهو الحيوان الأليف الذي لا يجزع من ركوبه الأطفال - جبان ما في ذلك ريب. وهو - لجبنه - كان يفر من مبارزة الرجال فراره من الأسود!
كان أبو دلامة مع أبي مسلم في بعض حروب مع بني أمية. فدعا رجل إلى البراز، فقال له أبو مسلم: أبرز إليه. فأنشأ يقول:
ألا لا تلمني إن فررت فإنني ... أخاف على فخارتي إن تحطما
فلو أنني في السوق أبتاع مثلها ... وجدك ما باليت أن أتقدما
فضحك أبو مسلم وأعفاه.
ولقد حدث أبو دلامة عن نفسه - وفي حديثه إثبات لجبنه - قال: أتى بي المنصور أو المهدي وأنا سكران فحلف ليخرجني في بعث حرب، فأخرجني مع روح بن حاتم المهلبي لقتال الشراة. فلما التقى الجمعان قلت لروح: أما والله لو أن تحتي فرسك ومعي سلاحك لأثرت في عدوك اليوم أثراً ترتضيه. فضحك وقال: والله العظيم لأدفعن ذلك إليك، ولآخذنك بالوفاء بشرطك. ونزل عن فرسه ونزع سلاحه ودفعهما إلى، ودعا بغيرهما فاستبدل به. فلما حصل ذلك في يدي وزالت عني حلاوة الطمع قلت له: أيها الأمير، هذا مقام العائذ بك، وقد قلت بيتين فاسمعهما. قال: هات، فأنشدته:
إني استجرتك أن أقدم في الوغى ... لتطاعن وتنازل وضراب
فهب السيوف رأيتها مشهورة ... فتركتها ومضيت في الهراب
ماذا تقول لما يجئ وما يرى ... من واردات الموت في النشاب