فقال: دع عنك هذا وستعلم. وبرز رجل من الخوارج يدعو للمبارزة، فقال: أخرج إليه يا أبا دلامة. فقلت: أنشدك الله أيها الأمير في دمي. قال: والله لتخرجن. فقلت: أيها الأمير فإنه أول يوم من الآخرة وآخر يوم من الدنيا، وأنا والله جائع ما شبعت مني جارحة من الجوع، فمر لي بشيء آكله ثم أخرج. فأمر لي برغيفين ودجاجة، فأخذت ذلك وبرزت عن الصف. فلما رآني الشاري أقبل نحوي عليه فرو وقد أصابه المطر فابتل، وأصابته الشمس فاقفعل وعيناه تقدان، فأسرع إلي. فقلت له: على رسلك يا هذا كما أنت، فوقف. فقلت: أتقتل من لا يقاتلك؟ قال: لا. قلت: أتقتل رجلاً على دينك؟ قال: لا. قلت أفتستحل ذلك قبل أن تدعو من تقاتله إلى دينك؟ قال: لا، فاذهب عني إلى لعنة الله: قلت لا أفعل أو تسمع مني. قال: قل. قلت: هل كانت بيننا قط عداوة أو ترة، أو تعرفني بحال تحفظك علي، أو تعلم بين أهلي وأهلك وتراً؟ قال: لا والله. قلت: ولا أنا، والله لا أحفظ لك إلا جميل الرأي، وإني لأهواك وأنتحل مذهبك وأدين دينك وأريد السوء لمن أراده لك. قال: يا هذا جزاك الله خيراً فانصرف. قلت: إن معي زاداً أحب أن آكله معك وأحب مؤاكلتك لتتوكد المودة بيننا، ويرى أهل العسكر هو انهم علينا. قال: فافعل. فتقدمت إليه حتى اختلف أعناق دوابنا وجمعنا أرجلنا على معارفها والناس قد غلبوا ضحكاً. فلما استوفينا ودعني. ثم قلت له: إن هذا الجاهل أن أقمت على طلب المبارزة ندبني إليك فتتعبني وتتعب؛ فإن رأيت ألا تبرز اليوم فافعل. قال: قد فعلت. ثم انصرف وانصرفت. فقلت لروح: أما أنا فقد كفيتك قرني، فقل لغيري أن يكفيك قرنه كما كفيتك، فأمسك. وخرج آخر يدعو إلى البراز، فقال لي: اخرج إليه، فقلت:
إني أعوذُ بروْح أنْ يُقدمني ... إلى البراز فتخزى بي بنو أَسَدٍ
إن البراز إلى الأقران أعلمه ... مما يفرِّق بين الروح والجسدِ
قد حالفتك المنايا إذ صمدت لها ... وأصبحت لجميع الخلق بالرَّصَد
إن المهلب حبَّ الموت أورثكم ... وما ورثت اختيار الموت عن أحد
لو أن لي مهجة أخرى لجدت بها ... لكنها خُلقت فرداً فلم أجُدِ
فضحك وأعفاني
فأبو دلامة يعترف هنا بجبنه، بل يصفه فيبدع في وصفه! وكأني به لا يجد فيه غضاضة،