للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أو يريد بذكر قصته ما يريده أمثاله من الظرفاء من إضحاك الناس ولو اتهموا أنفسهم بما لا يرضاه مخلوق لنفسه. والجبن خلق قديم في طبع أبي دلامة، فهو حتى في أيام شبابه - والشباب زمن التهور والحماسة - كان لا يخجل من الفرار من الأقران. وإليك اعترافه بذلك في هذه القصة:

كنت في عسكر مروان أيام زحف إلى سِنانٍ الخارجي. فلما التقى الزحفان خرج منهم رجل فنادى: من يبارز! فلم يخرج إليه أحد إلا أعجله ولم يُنهنهْه فغاظ ذلك مروان وجعل يندب الناس على خمسمائة، فقُتِل أصحاب الخمسمائة، فزاد مروان وندبهم على ألف، ولم يزل يزيدهم حتى بلغ خمسة آلاف درهم. وكان تحتي فرس لا أخاف خونه؛ فلما سمعت بالخمسة آلاف ترقبته واقتحمت الصف. فلما نظرني الخارجي علم أني خرجت للطمع، فأقبل إلي متهيئاً وإذا عليه فرو قد أصابه المطر فابتل، ثم أصابته الشمس فاقفعل، وإذا عيناه تقدان كأنها من غورهما في وقبين. فلماذا مني أنشأ يقول:

وخارجٍ أخرجه حبُّ الطمهْ ... فرَّ من الموتِ وفي الموت وقع

من كان ينوي أهله فلا رجَعْ

فلما وقرت في أذني انصرفت عنه هارباً. وجعل مروان يقول: من هذا الفاضح؟ ائتوني به، فدخلت في غمار الناس فنجوت.

فهذه القصة التي يرويها أبو دلامة عن نفسه كانت في أيام شبابه لأنه لم يجاوز عهد الشباب حتى أواخر الخلافة الأموية، ففيها دليل أقوى على جبنه وخوفه. وقد تشم فيها رائحة الوضع لأنَّ فيها صِيَغاً وأوصافاً تقارب ما في القصة السابقة مع روْح المهلبي، حين صور الخارجي المبارز بأن (عليه فرواً قد أصابه المطر فابتل، وأصابته الشمس فاقفعل، وعيناه تقدان. . .) الخ. ويمكننا القول بأن الحادثة قد تعددت على هذه الصورة مصادفة، أو أن أبا دلامة أعجبته هذه الأوصاف التي صوَّر بها مبارزه في المرة الأولى فأعادها في وصف مبارزه الثاني ليبرر موقفه في هربه أو فزعه من هذا المنظر الذي يملأ قلوب الجبناء رعباً.

ونحن - على كل حال - لا نريد أن نعفي كثيراً من أخبار أبي دلامة من ضعف الرواية، فقد لاحظنا بعض التضارب في قصصه، إذ رأينا مثلاً أن الخيزران هي التي وعدته جارية

<<  <  ج:
ص:  >  >>