فاستنجزها بشعر، مع أننا نجد في الأغاني (ص٢٦٨ جـ١٠) أن ريطة هي التي وعدته، ورأينا أن أبا دلامة طلب من السفاح كلب صيد ثم تدرج في الطلب إلى أشياء كثيرة، مع أننا نجد الجاحظ يروي القصة على أنها في زمن المنصور لا السفاح، ورأينا أبا دلامة يداعب السفاح فيقطعه خمسمائة ألف جريب غامرة على حين أننا نجده في موضع آخر قد أقطع أمثالها مازحاً للمنصور - وانتحلنا هناك لمنع التضارب علة لعلها غير مقبولة - لكن هذا كله لا يمنعنا من قبول أخبار أبي دلامة - على ما فيها من ضعف في الرواية - لأننا نجزم بأن مثل هذا الظريف لا بد من الزيادة في نوادره، والمبالغة في دعاباته. ومن المعروف أن الرجل إذا اشتهر بالظرف نسب إليه الناس كثيراً مما يستظرفون عمداً أو عفواً؛ بل إن الظرفاء أنفسهم كثيراً ما يجدون رغبة في اختلاق الروايات المعجبة وابتكار الأخبار المدهشة التي تدل على خيال خصيب، وذكاء عجيب، وتدل في الوقت نفسه على ميل إلى إرضاء المسامحين والظفر بإعجابهم. . .
ومن هنا لن نعجب إذا وجدنا في ترجمة أبي دلامة في كتاب (شذرات الذهب): (إنه مطعون فيه، وليست له رواية) ولن نعجب إذا قال مثل ذلك الحافظ الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد والحافظ ابن حجر التعسقلاني في (لسان الميزان).
وهكذا شابه أبو دلامة أبا العيناء الذي سبق أن كتبنا عنه في الرسالة في الطعن في روايته وعدم الثقة بأخباره. والفرق بين الظريفين من هذه الناحية أن أبا العيناء كان أحياناً ما يروي السنة فكان ضرورياً أن يطيل الحافظ في بيان ضعفه تحذيراً منه بينما اكتفى أَبو دلامة برواية أخباره ووصف نوادره التي تضحك الثكلى.
هذا هو الفرق بينهما من ناحية الرواية، وأما من حيث الشخصية فإننا نرى أن قد كان لأبي العيناء نوع من الفلسفة الخاصة في هذه الحياة، فقد كان معتزاً بنفسه إلى أبعد الحدود، يرى أن الله قد عوضه عن عماه لساناً سليطاً وشعراً متيناً وذكاءاً نادراً، بينما نرى أن أبا دلامة كان يعيش على هامش الحياة عيشة لاهية، فكثيراً ما كان يحقر نفسه ويذل كرامته ليضحك سواه رغباً في عرض أدنى يناله. ثم إن أبا العيناء كان ينتقد مجمعه ويتهكم بأهل زمنه تهكماً يدل على أن الألم كان يعصر قلبه على حين كان أبو دلامة لا ينتقد عيباً ولا يكاد يتألم من شيء، وإنما كان يعيش عيشة فردية همه فيها إرضاء شهواته، وبلوغ مآربه.