للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

لأعمل على تبديدها فإذا لم أجد ما أمزق به الوقت، واضطررت إلى مواجهة الزمان، في ساعة كساعات الانتظار، ضقت بعمري، وضجرت، وأحسست كأني سأجن! أني أركض أبداً وراء المستقبل ففي المستقبل أبلغ آمالي وفيه أصلح نفسي، وفيه أنيب إلى ربي، وفي أكتب تلك المعاني التي طالما جاشت بها نفسي، ولم يجربها قلمي، وفيه أؤلف الكتب الكبار التي طالما أزمة تأليفها وفيه أصنع كل شئ. ولكن المستقبل لن يأتي أبدا، وحين يأتي يصير (حاضرا) واذهب أفتش عن (مستقبل) أخر، فأنا كالفرس الذي يعدو ويشتد ويكد نفسه ليدرك حرمة الحشيش، والحزمة معلقة في عنقه يبصرها أبداً أمامه، ولا يصل إليها فلا يزال يسعى حتى يدركه الكلال، فيقع أو تعترضه حفرة فيسقط فيها. . ولكن الحفرة التي أسقط فيها أنا لا قيام منها، ولا مناص من ورودها ولا يستطيع أن يجتنبها كبير ولا صغير ولا غني ولا فقير ولا أمير ولا أجير. . .

وإذا أنا وصلت إلى الأمل الضخم، هان علي، وذهب بهاءه، وامحت روعته، كأن الآمال سراب لا يلمع إلا من بعيد.

لقد كان أكبر أملي يوم كنت في الابتدائية أن أكون معلما، وكنت أتوهم حياة المعلم فأوجدها جنة أنزلت الارض، فيها ما تشتهي الأنفس. . . أليس المعلم يأمر فيطاع أمره وينهي فيجتنب نهيه، ويوفى التبجيل وينال، الإكبار؟ فلما صرت معلما لم أجد من تلك الجنة إلا الذي تجده من الفوطة في الشتاء، أرضاً موحلة ما فيها إلا الشوك وأشجاراً يابسة ما فيها إلا الحطب، ورأيت مدرس الثانوية أعلى قدرا، واقل عملا واكبر مرتبا وأوسع جاها، فأملت أن أكون خطيبا، وأن أكون كاتبا وأن أكون قاضيا وأن أكون خطيبا وان أسيح في البلاد. . فلم أجد في الأمل إلا الألم لانتظاره ثم الملل من بقائه فتيقنت الآن أني لو صرت رئيس الجمهورية أو صاحب (الأهرام) أو كان لي مال (عبود)، لذهبت الأيام بلذة ذلك كله، وهونه الاعتياد، فلم أستفد منه، إلا حسد الحساد عليه، والحسرة، أن فقد، لفقده. . . وأن متع الدنيا أوهام، من لم ينلها تشوق إليها وحسد عليه، ومن نالها ملها وتمنى غيرها: المتزوج يتمنى العزوبة، والعزب يشتهي الزواج، والمقيم يرجو السفر والمسافر يطلب المعاد، والريفي يحن إلى المدينة والمدني يتشهى الريف، ونحن كلنا أطفال. . . تشتري للطفل اللعبة النفيسة فيفرح بها، ويهش لها، ثم يلقيها ويطلب غيرها، ولو كان دونها ثم أن الآمال لا

<<  <  ج:
ص:  >  >>